ثم قال تعالى : (
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وفيه وجهان :
أحدهما : أن المراد
من يكون أتقى يكون عند الله أكرم ، أي التقوى تفيد الإكرام .
ثانيهما : أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى ، أي الإكرام يورث التقوى ، كما يقال : المخلصون على خطر عظيم ، والأول أشهر ، والثاني أظهر ؛ لأن المذكور ثانيا أن يكون محمولا على المذكور أولا في الظاهر ، فيقال : الإكرام للتقى ، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول ، يقال : ألذ الأطعمة أحلاها ، أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة ، وهي إثبات لكون
التقوى متقدمة على كل فضيلة ، فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013724لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " نقول : التقوى ثمرة العلم ، قال الله تعالى : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] فلا تقوى إلا للعالم ، فالمتقي العالم أتم علمه ، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب ، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم ، وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له ، وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ، ولعله يعبده مخافة
[ ص: 120 ] الإلقاء في النار فهو كالمكره ، أو لدخول الجنة فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته ، والمتقي هو العالم بالله ، المواظب لبابه ، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت ، وفيه مباحث :
البحث الأول : الخطاب مع الناس ، والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ، ولا كرامة للكافر ، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام . نقول : ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى : (
ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه ، كأنه تعالى قال : من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته ، ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة . الثاني :
ما حد التقوى ومن الأتقى ؟ نقول : أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ، ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما ، فإن اتفق أن ارتكب منهيا لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة ، ومتى ارتكب منهيا وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل - فليس بمتق . أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهي عنه ، وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله ، فينور الله قلبه ، فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه ، وللأولين النجاة ؛ لقوله تعالى : (
ثم ننجي الذين اتقوا ) [ مريم : 72 ] وللآخرين السوق إلى الجنة ؛ لقوله تعالى : (
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فبين من أعطاه السلطان بستانا وأسكنه فيه ، وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب منه بساتين وضياعا بون عظيم .
ثم قال تعالى : (
إن الله عليم خبير ) أي عليم بظواهركم ، يعلم أنسابكم ، خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم ، فاجعلوا التقوى عملكم ، وزيدوا في التقوى كما زادكم .