(
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد )
قوله تعالى : (
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع ) .
ذكر المكذبين تذكيرا لهم بحالهم ووبالهم ، وأنذرهم بإهلاكهم واستئصالهم ، وتفسيره ظاهر ، وفيه
تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتنبيه بأن حاله كحال من تقدمه من الرسل ، كذبوا وصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم (
وأصحاب الرس ) فيهم وجوه : من المفسرين من قال : هم قوم
شعيب ، ومنهم من قال : هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم قوم
عيسى عليه السلام ، ومنهم من قال : هم أصحاب الأخدود ، والرس موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر ، يقال : رس إذا حفر بئرا ، وقد تقدم في سورة الفرقان ذلك ، وقال ههنا : ( إخوان لوط ) وقال : ( قوم نوح )
لأن لوطا كان مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام معارف لوط ،
[ ص: 139 ] ونوح كان مرسلا إلى خلق عظيم ، وقال : ( فرعون ) ولم يقل : قوم فرعون ، وقال : (
وقوم تبع ) لأن
فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه المستبد بأمره ،
وتبع كان معتمدا بقومه ، فجعل الاعتبار
لفرعون ، ولم يقل إلى قوم فرعون .
وقوله تعالى : (
كل كذب الرسل فحق وعيد ) .
يحتمل وجهين :
أحدهما : أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل ، واللام حينئذ لتعريف العهد .
وثانيهما : وهو الأصح هو أن كل واحد كذب جميع الرسل ، واللام حينئذ لتعريف الجنس ، وهو على وجهين :
أحدهما : أن
المكذب للرسول مكذب لكل رسول .
وثانيهما - وهو الأصح - : أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية ، وقوله : (
فحق وعيد ) أي ما وعد الله من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم .
ثم قال تعالى : (
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) .
وفيه وجهان :
أحدهما : أنه استدلال بدلائل الأنفس ؛ لأنا ذكرنا مرارا أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى : (
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو ، فقال : (
والأرض مددناها ) وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي ، وعلى هذا فيه
لطائف لفظية ومعنوية .
أما ( اللفظية ) فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال : (
والأرض مددناها ) وقال : (
ونزلنا من السماء ماء مباركا ) ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام ، والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس وهذا من جنس ، فلم يجعل هذا تبعا لذلك ، ومثل هذا مراعى في أواخر يس ، حيث قال تعالى : (
أولم ير الإنسان أنا خلقناه ) [ يس : 77 ] ثم لم يعطف الدليل الآفاقي ههنا ؟ نقول - والله أعلم - : ههنا وجد منهم الاستبعاد بقول : (
ذلك رجع بعيد ) فاستدل بالأكبر وهو خلق السماوات ، ثم نزل كأنه قال : لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك ، وفي سورة يس لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى .
والوجه الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو
خلق السماوات ؛ لأنه هو الخلق الأول ، وكأنه تعالى قال : (
أفلم ينظروا إلى السماء ) ثم قال : (
أفعيينا ) بهذا الخلق ، ويدل على هذا قوله تعالى : (
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن ) [ الأحقاف : 33 ] ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية : (
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) فهو
كالاستدلال بخلق الإنسان ، وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق ، وهو بناء السماء ، ومد الأرض ، وتنزيل الماء ، وإنبات الجنات ، وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان :
أحدهما : ما عليه الأمران ؛ لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه ، والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ؛ ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد .
والوجه الثاني : أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه ، كأنهم قالوا : أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية ؟ وقوله تعالى : (
بل هم في لبس ) تقديره : ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد ، يعني لا مانع من جهة الفاعل ، فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد ؛ لأنهم كانوا يقولون : ذلك محال ، وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزا فيه ، ويقال للمشكوك فيه : ملتبس ، كما يقال لليقين : إنه ظاهر
[ ص: 140 ] وواضح ، ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كما قلنا : إنه يقال : إن هذا أمر ظاهر وهذا أمر ملتبس ، وههنا أسند الأمر إليهم حيث قال : (
هم في لبس ) وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير ، فيختفي الأمر من جانب الرائي ، فقال ههنا : (
بل هم في لبس ) و " من " في قوله : (
من خلق جديد ) يفيد فائدة ، وهي ابتداء الغاية ، كأن اللبس كان حاصلا لهم من ذلك .