(
الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ) .
وقوله تعالى : (
الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ) .
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من قوله : (
كل كفار عنيد ) .
ثانيها : أنه عطف على: (
كل كفار عنيد ) .
ثالثها : أن يكون عطفا على قوله : (
ألقيا في جهنم ) كأنه قال :" ألقيا في جهنم كل كفار عنيد " أي
والذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه بعدما ألقيتموه في جهنم في عذاب شديد من عذاب جهنم .
ثم قال تعالى : (
قال قرينه ربنا ما أطغيته ) .
وهو جواب لكلام مقدر ، كأن
الكافر حينما يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني ، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته ، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا (
قال لا تختصموا لدي ) [ ق : 28 ] الاختصام يستدعي كلاما من الجانبين وحينئذ هذا ، كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص : (
قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ) [ ص : 60 ] وقوله تعالى : (
قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده ) [ص:61] إلى أن قال : (
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) [ ص : 64 ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري :
المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد ، واستدل عليه بهذا . وقال غيره ، المراد الملك لا الشيطان ، وهذا يصلح دليلا لمن قال ذلك ، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان ، فيكون قوله : (
هذا ما لدي عتيد ) معناه هذا الشخص عندي عتيد معتد للنار أعتدته بإغوائي ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري صرح في تفسير تلك بهذه ، وعلى هذا فيكون قوله :
ربنا ما أطغيته ) [ق: 27] مناقضا لقوله ( أعتدته ) .
nindex.php?page=showalam&ids=14423وللزمخشري أن يقول : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن يقول إن الشيطان يقول ( أعتدته ) بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان .
وثانيهما : أن تكون الإشارة إلى حالين : ففي الحالة الأولى إنما فعلت به ذلك إظهارا للانتقام من بني
آدم ، وتصحيحا لما قال : (
فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب ، كما قال تعالى : (
فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك ) [ ص : 85 ] فيقول (
ربنا ما أطغيته ) فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب .
[ ص: 145 ] المسألة الثانية : قال ههنا : (
قال قرينه ) من غير واو ، وقال في الآية الأولى: (
وقال قرينه ) بالواو العاطفة ، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين ، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق ، ويقول الشهيد ذلك القول ، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو ، والفاء في قوله (
فألقياه في العذاب ) لا يناسب قوله تعالى : (
قال قرينه ربنا ما أطغيته ) مناسبة مقتضية للعطف بالواو .
المسألة الثالثة : القائل ههنا واحد ، وقال: ( ربنا ) ولم يقل رب ، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحدا ، قال رب ، كما في قوله : (
قال رب أرني أنظر إليك ) [ الأعراف : 143 ] وقول
نوح : (
رب اغفر لي ) [ ص: 35] وقوله تعالى : (
قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) [ التحريم : 11 ] إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : (
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ) [ ص : 79 ] نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب ، ولا يحسن أن يقول الطالب : يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا ، وإنما يقول : أعطنا لأن كونه ربا لا يناسب تخصيص الطالب ، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال : (
ربنا ما أطغيته ) .
وقوله تعالى : (
ولكن كان في ضلال بعيد ) .
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه ، وإنما كان ضالا متغلغلا في الضلال فطغى ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما
الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد ؟ نقول الضال يكون أكثر ضلالا عن الطريق ، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيرا ، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيرا ، فقوله: (
ضلال بعيد ) وصف المصدر بما يوصف به الفاعل ، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد ، والضلال إذا بعد مداه ، وامتد الضال فيه يصير بينا ويظهر الضلال ; لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق ، وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلا ، فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع، فقال تارة في ضلال مبين ، وأخرى قال : (
في ضلال بعيد ) .
المسألة الثانية : قوله تعالى : (
ولكن كان في ضلال بعيد ) إشارة إلى قوله (
إلا عبادك منهم المخلصين ) [ الحجر : 40 ] وقوله تعالى : (
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) [ الحجر : 42 ] أي لم يكونوا من العباد ، فجعلهم أهل العناد ، ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال : (
لأغوينهم أجمعين ) [ الحجر : 39 ] ؟ قلنا : الجواب عنه من ثلاثة أوجه : وجهان قد تقدما في الاعتذار عما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، والثالث هو أن يكون المراد من قوله : (
لأغوينهم ) أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة ، فلا تتركها ، يقال أنه يضله كذلك ههنا ، وقوله: (
ما أطغيته ) أي ما كان ابتداء الإطغاء مني .