(
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) .
ثم قال تعالى : (
قال لا تختصموا لدي ) .
[ ص: 146 ] قد ذكرنا أن هذا دليل على أن هناك كلاما قبل قوله : (
قال قرينه ربنا ما أطغيته ) وهو قول الملقى في النار ربنا أطغاني، وقوله: (
لا تختصموا لدي ) يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يدي .
وقوله تعالى : (
وقد قدمت إليكم بالوعيد ) .
تقرير للمنع من الاختصام وبيان لعدم فائدته ، كأنه يقول قد قلت إنكم
إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه ، فإن قيل ما حكم الباء في قوله تعالى : (
بالوعيد ) ؟ قلنا فيها وجوه :
أحدها : أنها مزيدة كما في قوله تعالى : (
تنبت بالدهن ) ، على قول من قال إنها هناك زائدة ، وقوله: (
وكفى بالله ) [ النساء : 6 ] .
وثانيها : معدية , فقدمت بمعنى تقدمت كما في قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ) [ الحجرات : 1 ] .
ثالثها : في الكلام إضمار تقديره : وقد قدمت إليكم مقترنا بالوعيد: (
ما يبدل القول لدي ) فيكون المقدم هو قوله : ما يبدل القول لدي .
رابعها : هي المصاحبة يقول القائل : اشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معه فيكون كأنه تعالى قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه بالإنذار .
وقوله تعالى : (
ما يبدل القول لدي ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون قوله : ( لدي ) متعلقا بالقول أي: (
ما يبدل القول لدي ) .
وثانيهما : أن يكون ذلك متعلقا بقوله: ( ما يبدل ) أي لا يقع التبديل عندي ، وعلى الوجه الأول في القول الذي لديه وجوه :
أحدها : هو أنهم لما قالوا حتى يبدل ما قيل في حقهم ( ألقيا ) بقول الله بعد اعتذارهم لا تلقياه فقال تعالى : ما يبدل هذا القول لدي ، وكذلك قوله : (
قيل ادخلوا أبواب جهنم ) [ الزمر : 72 ] لا تبديل له.
ثانيها : هو قوله (
ولكن حق القول مني لأملأن جهنم ) [ السجدة : 13 ] أي لا تبديل لهذا القول .
ثالثها :
لا خلف في إيعاد الله تعالى كما لا إخلاف في ميعاد الله ، وهذا يرد على
المرجئة حيث
قالوا ما ورد في القرآن من الوعيد ، فهو تخويف لا يحقق الله شيئا منه ،
وقالوا : الكريم إذا وعد أنجز ووفى ، وإذا أوعد أخلف وعفا .
رابعها : لا يبدل القول السابق أن هذا شقي ، وهذا سعيد ، حين خلقت العباد ، قلت هذا شقي ويعمل عمل الأشقياء ، وهذا تقي ويعمل عمل الأتقياء ، وذلك القول عندي لا تبديل له بسعي ساع ولا سعادة إلا بتوفيق الله تعالى .
وأما على الوجه الثاني ففي: (
ما يبدل ) وجوه أيضا :
أحدها : لا يكذب لدي ولا يفترى بين يدي ، فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى ، ومن كان طاغيا ومن كان أطغى ، فلا يفيدكم قولكم أطغاني شيطاني ، ولا قول الشيطان: (
ربنا ما أطغيته ) .
ثانيها : إشارة إلى معنى قوله تعالى : (
ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ الحديد : 13 ] كأنه تعالى قال لو أردتم أن لا أقول فألقياه في العذاب الشديد كنتم بدلتم هذا من قبل بتبديل الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي ، وأما الآن فما يبدل القول لدي كما قلنا في قوله تعالى : (
قال لا تختصموا لدي ) المراد أن اختصامكم كان يجب أن يكون قبل هذا حيث قلت: (
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) [ فاطر : 6 ] .
ثالثها : معناه لا يبدل الكفر بالإيمان لدي ، فإن
الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم : ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله : " ربنا ما أشركنا " وقوله : " ربنا آمنا " وقوله تعالى : (
ما يبدل القول ) إشارة إلى نفي الحال كأنه تعالى يقول ما يبدل اليوم لدي القول ; لأن
( ما ) ينفى بها الحال إذا دخلت على الفعل المضارع ، يقول القائل ماذا تفعل غدا ؟ يقال ما أفعل شيئا أي في الحال ، وإذا قال القائل ماذا يفعل غدا ؟
[ ص: 147 ] يقال لا يفعل شيئا أو لن يفعل شيئا إذا أريد زيادة بيان النفي ، فإن قيل هل فيه بيان معنوي يفيد افتراق ( ما ) و ( لا ) في المعنى، نقول : نعم ، وذلك لأن كلمة ( لا ) أدل على النفي لكونها موضوعة للنفي وما في معناه كالنهي خاصة لا يفيد الإثبات إلا بطريق الحذف أو الإضمار وبالجملة فبطريق المجاز كما في قوله ( لا أقسم ) [ البلد : 1 ] وأما ( ما ) فغير متمحضة للنفي لأنها واردة لغيره من المعاني حيث تكون اسما والنفي في الحال لا يفيد النفي المطلق لجواز أن يكون مع النفي في الحال الإثبات في الاستقبال ، كما يقال ما يفعل الآن شيئا وسيفعل إن شاء الله ، فاختص بما لم يتمحض نفيا حيث لم تكن متمحضة للنفي لا يقال إن ( لا ) للنفي في الاستقبال والإثبات في الحال فاكتفى في الاستقبال بما لم يتمحض نفيا ; لأنا نقول ليس كذلك إذ لا يجوز أن يقال لا يفعل زيد ويفعل الآن ، نعم يجوز أن يقال لا يفعل غدا ، ويفعل الآن لكون قولك غدا يجعل الزمان مميزا فلم يكن قولك لا يفعل للنفي في الاستقبال بل كان للنفي في بعض أزمنة الاستقبال ، وفي مثالنا قلنا ما لا يفعل وسيفعل وما قلنا سيفعل غدا وبعد غد ، بل ههنا نفينا في الحال وأثبتنا في الاستقبال من غير تمييز زمان من أزمنة الاستقبال عن زمان ، ومثاله في العكس أن يقال لا يفعل زيد وهو يفعل من غير تعيين وتمييز ومعلوم أن ذلك غير جائز .