[ ص: 186 ] (
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين )
المسألة الثالثة : من أين عرف كونهم مرسلين ؟ فنقول (
قالوا ) له بدليل قوله تعالى : (
إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) [ هود : 70 ] وإنما لم يذكر ههنا لما بينا أن الحكاية ببسطها مذكورة في سورة هود ، أو نقول لما قالوا لامرأته : (
كذلك قال ربك ) علم كونهم منزلين من عند الله حيث كانوا يحكون قول الله تعالى ، يدل على هذا أن قولهم : (
إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) كان جواب سؤاله منهم .
المسألة الرابعة : هذه الحكاية بعينها هي المحكية في هود ، وهناك قالوا : (
إنا أرسلنا ) بعدما زال عنه الروع وبشروه ، وهنا قالوا : (
إنا أرسلنا ) بعدما سألهم عن الخطب ، وأيضا قالوا هناك : (
إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) [ هود : 70 ] وقالوا ههنا : (
إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) والحكاية من قولهم ، فإن لم يقولوا ذلك ورد السؤال أيضا ، فنقول إذا قال قائل حاكيا عن زيد : قال زيد عمرو خرج ، ثم يقول مرة أخرى : قال زيد إن بكرا خرج ، فإما أن يكون صدر من زيد قولان ، وإما أن لا يكون حاكيا ما قاله زيد ، والجواب عن الأول : هو أنه لما خاف جاز أنهم ما قالوا له: (
لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) [هود : 70] فلما قال لهم ماذا تفعلون بهم ، كان لهم أن يقولوا : (
إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) لنهلكهم ، كما يقول القائل : خرجت من البيت ، فيقال : لماذا خرجت ؟ فيقول : خرجت لأتجر ، لكن ههنا فائدة معنوية ، وهي أنهم إنما قالوا في جواب (
فما خطبكم ) نهلكهم بأمر الله ، لتعلم براءتهم عن إيلام البريء ، وإهمال الرديء فأعادوا لفظ الإرسال ، وأما عن الثاني : نقول الحكاية قد تكون حكاية اللفظ ، كما تقول : قال زيد بعمرو مررت ، فيحكي لفظه المحكي ، وقد يكون حكاية لكلامه بمعناه تقول : زيد قال عمرو خرج ، ولك أن تبدل مرة أخرى في غير تلك الحكاية بلفظة أخرى ، فتقول لما قال زيد بكر خرج ، قلت كيت وكيت ، كذلك ههنا القرآن لفظ معجز ، وما صدر ممن تقدم نبينا عليه السلام سواء كان منهم ، وسواء كان منزلا عليهم لم يكن لفظه معجزا ، فيلزم أن لا تكون هذه الحكايات بتلك الألفاظ ، فكأنهم قالوا له : (
إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) وقالوا : (
إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) [هود : 70] وله أن يقول ، إنا أرسلنا إلى قوم من آمن بك ; لأنه لا يحكي لفظهم حتى يكون ذلك واحدا ، بل يحكي كلامهم بمعناه وله عبارات كثيرة . ألا ترى أنه تعالى لما حكى لفظهم في السلام على أحد الوجوه في التفسير ، قال في الموضعين : سلاما وسلام ثم بين ما لأجله أرسلوا بقوله : (
لنرسل عليهم حجارة من طين ) وقد فسرنا ذلك في العنكبوت ، وقلنا : إن ذلك دليل على وجوب
الرمي بالحجارة على اللائط وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أي حاجة إلى قوم من الملائكة ، وواحد منهم كان يقلب المدائن بريشة من جناحه ؟ نقول : الملك القادر قد يأمر الحقير بإهلاك الرجل الخطير ، ويأمر الرجل الخطير بخدمة الشخص الحقير ، إظهارا لنفاذ أمره ، فحيث أهلك الخلق الكثير بالقمل والجراد والبعوض بل بالريح التي بها الحياة ، كان أظهر في القدرة وحيث أمر الآلاف من الملائكة بإهلاك
أهل بدر مع قلتهم كان أظهر في نفاذ الأمر . وفيه فائدة أخرى ، وهي أن من يكون تحت طاعة ملك عظيم ، ويظهر له عدو ويستعين بالملك فيعينه بأكابر عسكره ، يكون ذلك تعظيما منه له وكلما كان العدو أكثر والمدد أوفر كان التعظيم أتم ، لكن الله تعالى أعان لوطا بعشرة ونبينا عليه السلام بخمسة آلاف ، وبين العددين من التفاوت ما لا يخفى وقد ذكرنا نبذا منه في تفسير قوله تعالى : (
وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء ) [ يس : 28 ] .
[ ص: 187 ] المسألة الثانية : ما
الفائدة في تأكيد الحجارة بكونها ( من طين ) ؟ نقول : لأن بعض الناس يسمي البرد حجارة فقوله : (
من طين ) يدفع ذلك التوهم ، واعلم أن بعض من يدعي النظر يقول : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدورات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة ، قالوا : وسبب ذلك هو أن الإعصار يصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها ، والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ، ويتفق وصول ذلك إلى هواء ندي ، فيصير طينا رطبا ، والرطب إذا نزل وتفرق استدار ، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات مدورات كاللآلئ الكبار ، ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو ، جعلته حجارة كالآجر المطبوخ ، فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه ، وقد ينزل كثيرا في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به ، ولهذا قال : (
من طين ) لأن ما لا يكون (
من طين ) كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيرا بحيث يمطر وهذا تعسف ، ومن يكون كامل العقل يسند الفكر إلى ما قاله ذلك القائل ، فيقول ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر يلزم التسلسل ولا بد من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث ، فذلك المحدث لا بد وأن يكون فاعلا مختارا ، والمختار له أن يفعل ما ذكر وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار ، لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه يجب أخذه بالنقل ، والنص ورد به فأخذنا به ولا نعلم الكيفية وإنما المعلوم أن الحجارة التي من طين نزولها من السماء أغرب وأعجب من غيرها ; لأنها في العادة لا بد لها من مكث في النار .