(
فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم )
ثم قال تعالى : (
فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم ) وهو إشارة إلى بعض ما أتى به ، كأنه يقول : واتخذ الأولياء فلم ينفعوه ، وأخذه الله وأخذ أركانه وألقاهم جميعا في اليم وهو البحر ، والحكاية
[ ص: 190 ] مشهورة ، وقوله تعالى : (
وهو مليم ) نقول فيه
شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين ، أما شرفه فلأنه تعالى قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله : إني أريد هلاك أعدائك يا إله العالمين ، فلم يكن له سبب إلا هذا ، أما فرعون فقال : (
أنا ربكم الأعلى ) [ النازعات : 24 ] فكان سببه تلك ، وهذا كما قال القائل : فلان عيبه أنه سارق ، أو قاتل ، أو يعاشر الناس فيؤذيهم ، وفلان عيبه أنه مشغول بنفسه لا يعاشر ، فتكون نسبة العيبين بعضهما إلى بعض سببا لمدح أحدهما وذم الآخر . وأما بشارة المؤمنين فهو بسبب أن من التقمه الحوت وهو مليم نجاه الله تعالى بتسبيحه ،
ومن أهلكه الله بتعذيبه لم ينفعه إيمانه حين قال : (
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) [ يونس : 90 ] .
ثم قال تعالى : (
وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) وفيه ما ذكرنا من الوجوه التي ذكرناها في عطف
موسى عليه السلام ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر أن المقصود ههنا
تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكيره بحال الأنبياء ، ولم يذكر في
عاد وثمود أنبياءهم ، كما ذكر
إبراهيم وموسى عليهما السلام ، نقول في ذكر الآيات ست حكايات : حكاية
إبراهيم عليه السلام وبشارته ، وحكاية
قوم لوط ونجاة من كان فيها من المؤمنين ، وحكاية
موسى عليه السلام ، وفي هذه الحكايات الثلاث ذكر الرسل والمؤمنين ; لأن الناجين فيهم كانوا كثيرين ، أما في حق
إبراهيم وموسى عليهما السلام فظاهر ، وأما في
قوم لوط فلأن الناجين ، وإن كانوا أهل بيت واحد ، ولكن المهلكين كانوا أيضا أهل بقعة واحدة .
وأما
عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين أضعاف ما كان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين من
قوم لوط عليه السلام .
فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بالنجاة ، وذكر الثلاث المتأخرة للتسلية بإهلاك العدو ، والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات : (
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) [الذاريات : 52] إلى أن قال : (
فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [ الذاريات : 54 - 55 ] .
وفي هود قال بعد الحكايات : (
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك ) [هود : 100] إلى أن قال : (
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) [ هود : 102 ] فذكر بعدها ما يؤكد التهديد ، وذكر بعد الحكايات ههنا ما يفيد التسلي ، وقوله : (
العقيم ) أي ليست من اللواقح لأنها كانت تكسر وتقلع فكيف كانت تلقح والفعيل لا يلحق به تاء التأنيث إذا كان بمعنى مفعول وكذلك إذا كان بمعنى فاعل في بعض الصور ، وقد ذكرنا سببه أن فعيلا لما جاء للمفعول والفاعل جميعا ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه لو تميز لتميز الفاعل عن المفعول قبل تميز المؤنث والمذكر ; لأن
الفاعل جزء من الكلام محتاج إليه فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل والمفعول ، تقول فاعل وفاعلة ومفعول ومفعولة ، ويدل على ذلك أيضا أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل فاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة ، وقيل مفعول بواو فاصلة بين العين واللام , والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة فالمميز فيهما غير نظم الكلمة لشدة الحاجة وفي
[ ص: 191 ] التأنيث لم يؤثر ، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كل واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف عند وجوده يميز المؤنث وعند عدمه يبقى اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن فعيل يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بحرف غير متصل به .