(
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون )
ثم قال تعالى : (
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) أمر بالتوحيد ، وفيه لطائف .
الأولى : قوله تعالى : (
ففروا ) ينبئ عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع ،
فافزعوا إلى الله سريعا وفروا .
الثانية : قوله تعالى : (
إلى الله ) بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين ، إما لكونه معلوما وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه : (
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) [ فاطر : 6 ] وإما ليكون عاما كأنه يقول : كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه ، وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر ، ويفوت عليك ما هو الحق والخير ،
[ ص: 196 ] ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو ، وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه .
والثالثة : الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركا مؤبدا .
الرابعة :
في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال : (
والسماء بنيناها ) (
والأرض فرشناها ) ومن كل شيء خلقنا ، ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال : (
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) ولم يقل ففروا إلينا ، وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيرا ، وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيرا ، ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة ، ويجعل الكلام مختلفا ، نوعا ترغيبا ونوعا ترهيبا ، وتنبيها بالحكاية ، ثم يقول لغيره تكلم معه لعل كلامك ينفع ، لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر ، والله تعالى ذكر أنواعا من الكلام وكثيرا من الاستدلالات والآيات وذكر طرفا صالحا من الحكايات ، ثم ذكر كلاما من متكلم آخر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله : (
إني لكم منه نذير ) إشارة إلى الرسالة .
وفيه أيضا لطائف .
إحداها : أن الله تعالى بين عظمته بقوله : (
والسماء بنيناها ) )
والأرض فرشناها ) وهيبته بقوله : (
فنبذناهم في اليم ) وقوله تعالى : (
أرسلنا عليهم الريح العقيم ) وقوله : (
فأخذتهم الصاعقة ) وفيه إشارة إلى
أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار ، فحكايات
لوط تدل على أن
التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء ، والماء كذلك في
قوم فرعون والهواء في
عاد والنار في
ثمود ، ولعل ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئا منه ، ثم إذ أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة .
ثانيها : في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وههنا ذكر الكل ، فقوله : (
لكم ) إشارة إلى المرسل إليهم وقوله : (
منه ) إشارة إلى المرسل وقوله : (
نذير ) بيان للرسول ، وقدم المرسل إليه في الذكر ; لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة ; لأن عنده يتم الأمر ، والملك لو لم يكن هناك من يخالفه أو يوافقه فيرسل إليه نذيرا أو بشيرا لا يرسل وإن كان ملكا عظيما ، وإذا حصل المخالف أو الموافق يرسل وإن كان غير عظيم ، ثم المرسل لأنه متعين وهو الباعث ، وأما الرسول فباختياره ، ولولا المرسل المتعين لما تمت الرسالة ، وأما الرسول فلا يتعين ; لأن للملك اختيار من يشاء من عباده ، فقال : (
منه ) ثم قال : (
نذير ) تأخيرا للرسول عن المرسل .
ثالثها : قوله : (
مبين ) إشارة إلى ما به تعرف الرسالة ; لأن كل حادث له سبب وعلامة ،
فالرسول هو الذي به تتم الرسالة ، ولا بد له من علامة يعرف به ، فقوله : (
مبين ) إشارة إليها وهي إما البرهان أو المعجزة .
ثم قال تعالى : (
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر ) إتماما للتوحيد ، وذلك لأن التوحيد بين التعطيل والتشريك ، وطريقة التوحيد هي الطريقة ، فالمعطل يقول لا إله أصلا ، والمشرك يقول في الوجود آلهة ، والموحد يقول : قوله الاثنين باطل ، ونفي الواحد باطل ، فقوله تعالى : (
ففروا إلى الله ) أثبت وجود الله ، ولما قال : (
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر ) نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين ، ولهذا قال مرتين : (
إني لكم منه نذير مبين ) أي في المقامين والموضعين ، وقد ذكرنا مرارا أن المعطل إذا قال لا واجب يجعل الكل ممكنا ، فإن كل موجود ممكن ، ولكن الله في الحقيقة موجود ، فقد جعله في تضاعيف قوله كالممكنات فقد أشرك ، وجعل الله كغيره ، والمشرك لما قال بأن غيره إله يلزم من قوله نفي كون الإله إلها لما ذكرنا في تقرير دلالة
[ ص: 197 ] التمانع مع أنه
لو كان فيهما آلهة إلا الله للزم عجز كل واحد ، فلا يكون في الوجود إله أصلا . فيكون نافيا للفعلية ، فيكون معطلا ، فالمعطل مشرك ، والمشرك معطل ، وكل واحد من الفريقين معترف بأن خصمه مبطل ، لكنه هو على مذهب خصمه يقول إنه نفسه مبطل وهو لا يعلم ، والحمد لله الذي هدانا ، وقوله: (
ولا تجعلوا ) فيه لطيفة ، وهي أنه إشارة إلى أن الآلهة مجعولة ، لا يقال فالله متخذ لقوله: (
فاتخذه وكيلا ) [ المزمل : 9 ] قلنا : الجواب عنه الظاهر ، وقد سبق في قوله تعالى : (
واتخذوا من دون الله آلهة ) [ يس : 74 ] .
ثم قال تعالى : (
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) .
والتفسير معلوم مما سبق ، وقد ذكرنا أنه يدل على أن ذكر الحكايات للتسلية ، غير أن فيه لطيفة واحدة لا نتركها ، وهي أن هذه الآية دليل على أن
كل رسول كذب ، وحينئذ يرد عليه أسئلة .
الأول : هو أنه من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله ، وبقي القوم على ما كانوا عليه ، كأنبياء
بني إسرائيل مدة ، وكيف
وآدم لما أرسل لم يكذب .
الثاني : ما الحكمة في تقدير الله تكذيب الرسل ، ولم يرسل رسولا مع كثرتهم واختلاف معجزاتهم بحيث يصدقه أهل زمانه ؟
الثالث : قوله : ( ما أتى....... إلا قالوا ) دليل على أنهم كلهم قالوا ساحر ، وليس كذلك لأنه ما من رسول إلا وآمن به قوم ، وهم ما قالوا ذلك.
والجواب عن الأول : هو أن نقول ، أما المقرر فلا نسلم أنه رسول ، بل هو نبي على دين رسول ، ومن كذب رسوله فهو مكذبه أيضا ضرورة .
وعن الثاني : هو أن
الله لا يرسل إلا عند حاجة الخلق ، وذلك عند ظهور الكفار في العالم ، ولا يظهر الكفر إلا عند كثرة الجهل ، ثم إن الله تعالى لا يرسل رسولا مع كون الإيمان به ضروريا ، وإلا لكان الإيمان به إيمان اليأس فلا يقبل ، والجاهل إذا لم يكن المبين له في غاية الوضوح لا يقبله فيبقى في ورطة الضلالة ، فهذا قدر لزم بقضاء الله على الخلق على هذا الوجه ، وقد ذكرنا مرة أخرى أن بعض الناس يقول : كل ما هو قضاء الله فهو خير ، والشر في القدر ، فالله قضى بأن النار فيها مصلحة للناس لأنها نور ، ويجعلونها متاعا في الأسفار وغيرها كما ذكر الله ، والماء فيه مصلحة الشرب ، لكن النار إنما تتم مصلحتها بالحرارة البالغة والماء بالسيلان القوي ، وكونهما كذلك يلزمهما بإجراء الله عادته عليهما أن يحرق ثوب الفقير ، ويغرق شاة المسكين ، فالمنفعة في القضاء والمضرة في القدر ، وهذا الكلام له غور ، والسنة أن نقول "
يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ".
وعن الثالث : أن ذلك ليس بعام ، فإنه لم يقل إلا قال كلهم ، وإنما قال : (
إلا قالوا ) ولما كان كثير منهم ، بل أكثرهم قائلين به ، قال الله تعالى : (
إلا قالوا ) فإن قيل : فلم لم يذكر المصدقين ، كما ذكر المكذبين ، وقال إلا قال بعضهم صدقت ، وبعضهم كذبت ؟ نقول لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب ، فكأنه تعالى قال : لا تأس على تكذيب قومك ، فإن أقواما قبلك كذبوا ، ورسلا كذبوا .