(
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين )
ثم قال تعالى : (
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بين أن في الوجود قوما يخافون الله ويشفقون في أهليهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور
بتذكير من يخاف الله تعالى بقوله (
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45] فحقق من يذكره فوجب التذكير ، وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفاء في قوله ( فذكر ) قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء .
المسألة الثانية : معنى الفاء في قوله ( فما أنت ) أيضا قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم ، فإن ذلك سيرة المزور ( فذكر ) فإنك لست بمزور ، وذلك سبب التذكير .
المسألة الثالثة : ما وجه تعلق قوله (
نتربص به ريب المنون ) بقوله (
شاعر ) ؟ نقول فيه وجهان :
الأول : أن العرب كانت تحترز عن
إيذاء الشعراء وتتقي ألسنتهم ، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون ، وقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وإنما سبيلنا الصبر وتربص موته .
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إن الحق دين الله ، وإن الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر وكتابي يتلى إلى قيام الساعة ، فقالوا ليس كذلك إنما هو شاعر ، والذي يذكره في حق آلهتنا شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك .
المسألة الرابعة : ما معنى ريب المنون ؟ نقول قيل هو اسم للموت فعول من المن وهو القطع والموت قطوع ، ولهذا سمي بمنون ، وقيل المنون الدهر وريبه حوادثه ، وعلى هذا قولهم (
نتربص ) يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعرا فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل فساد أمره وكساد شعره .
المسألة الخامسة : كيف قال : (
تربصوا ) بلفظ الأمر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوجب المأمور [ به] أو يفيد جوازه ،
[ ص: 220 ] وتربصهم ذلك كان حراما ؟ نقول ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد معناه تربصوا ذلك فإنا نتربص الهلاك بكم على حد ما يقول السيد الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل، وهو أمر لتهوين الأمر على النفس ، كما يقول القائل لمن يهدده برجل ويقول أشكوك إلى زيد، فيقول اشكني أي لا يهمني ذلك، وفيه زيادة فائدة ، وذلك لأنه لو قال لا تشكني لكان ذلك دليل الخوف وينافيه معناه ، فأتى بجواب تام من حيث اللفظ والمعنى ، فإن قيل لو كان كذلك لقال تربصوا أو لا تربصوا كما قال : (
فاصبروا أو لا تصبروا ) [ الطور : 16] نقول ليس كذلك لأنه إذا قال القائل فيما ذكرناه من المثال اشكني أو لا تشكني يكون ذلك مفيدا عدم خوفه منه ، فإذا قال اشكني يكون أدل على عدم الخوف ، فكأنه يقول أنا فارغ عنه ، وإنما أنت تتوهم أنه يفيد فافعل حتى يبطل اعتقادك .
المسألة السادسة : في قوله تعالى : (
فإني معكم من المتربصين ) وهو يحتمل وجوها :
أحدها : إني معكم من المتربصين أتربص هلاككم، وقد أهلكوا يوم
بدر وفي غيره من الأيام هذا ما عليه الأكثرون، والذي نقوله في هذا المقام هو أن الكلام يحتمل وجوها، وبيانها هو أن قوله تعالى : (
نتربص به ريب المنون ) إن كان المراد من المنون الموت فقوله (
فإني معكم من المتربصين ) معناه إني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد ، لعدم علمي بما قدمت يداه وإنما أنا نذير وأنا أقول ما قال ربي (
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) [ آل عمران : 144] فتربصوا موتي وأنا متربص ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتوقعون بعدي ، ويحتمل أن يكون كما قيل تربصوا موتي فإني متربص موتكم بالعذاب ، وإن قلنا : المراد من ريب المنون صروف الدهر فمعناه إنكار كون صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول أنا من المتربصين حتى أبصر ماذا يأتي به دهركم الذي تجعلونه مهلكا وماذا يصيبني منه ، وعلى التقديرين فنقول
النبي صلى الله عليه وسلم يتربص ما يتربصون ، غير أن في الأول : تربصه مع اعتقاد الوقوع ، وفي الثاني : تربصه مع اعتقاد عدم التأثير ، على طريقة من يقول أنا أيضا أنتظر ما ينتظره حتى أرى ماذا يكون منكرا عليه وقوع ما يتوقع وقوعه ، وإنما هذا لأن ترك المفعول في قوله (
فإني معكم من المتربصين ) لكونه مذكورا وهو ريب المنون أولى من تركه وإرادة غير المذكور وهو العذاب. الثاني : أتربص صروف الدهر ليظهر عدم تأثيرها فهو لم يتربص بهم شيئا على الوجهين ، وعلى هذا الوجه يتربص بقاءه بعدهم وارتفاع كلمته فلم يتربص بهم شيئا على الوجوه التي اخترناها فقال : (
فإني معكم من المتربصين ) .