(
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون )
ثم قال تعالى : (
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون )
وجه التعلق هو أن المشركين لما اطرحوا الشرع واتبعوا ما ظنوه عقلا ، وسموا الموجود بعد العدم مولودا ومتولدا ، والموجد والدا لزمهم الكفر بسببه والإشراك ، فقال لهم ما الذي يحملكم على
اطراح الشرع ، وترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ هل ذلك لطلبه منكم شيئا فما كان يسعهم أن يقولوا نعم ، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا لا ، فنقول لهم : كيف اتبعتم قول الفلسفي الذي يسوغ لكم الزور وما يوجب الاستخفاف بجانب الله تعالى لفظا إن لم يكن معنى كما تقولون ، ولا تتبعون الذي يأمركم بالعدل في المعنى والإحسان في اللفظ ، ويقول لكم اتبعوا المعنى الحق الواضح واستعملوا اللفظ الحسن المؤدب ؟ وهذا في غاية الحسن من التفسير ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال أم تسألهم ولم يقل أم يسألون أجرا كما قال تعالى : (
أم يقولون ) [ يونس : 38] وقال تعالى : (
أم يريدون كيدا ) [ الطور : 42] إلى غير ذلك ؟ نقول فيه فائدتان :
إحداهما :
تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأنهم لما امتنعوا من الاستماع واستنكفوا من الاتباع صعب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ربه أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا فأنت غير ملوم ، وإنما كنت تلام لو كنت طلبت منهم أجرا ، فهل طلبت ذلك فأثقلهم ؟ لا فلا حرج عليك إذا .
ثانيهما : أنه لو قال أم يسألون لزم في أجر مطلقا وليس كذلك ؛ وذلك لأنهم كانوا يشركون ويطالبون بالأجر من رؤسائهم ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أنت لا تسألهم أجرا فهم لا يتبعونك ، وغيرك يسألهم وهم يسألون ويتبعون السائلين ، وهذا غاية الضلال .
المسألة الثانية : إن قال قائل ألزمت أن تبين أن أم لا تقع إلا متوسطة حقيقة أو تقديرا فكيف ذلك هاهنا ؟ نقول كأنه تعالى يقول أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا ، وترك الأول لعدم وقوع الإنكار عليه كما قلنا في قوله (
أم له البنات ) إن المقدار هو واحد أم له البنات ، وترك ذكر الأول لعدم وقوع الإنكار عليه من الله تعالى وكونهم قائلين بأنه لا يريد وجه الله تعالى ، وإنما يريد الرياسة والأجر في الدنيا .
المسألة الثالثة : هل في خصوص قوله تعالى ( أجرا ) فائدة لا توجد في غيره لو قال أم تسألهم شيئا أو مالا أو غير ذلك ؟ نقول نعم ، وقد تقدم القول أن
كل لفظ في القرآن فيه فائدة وإن كنا لا نعلمها ، والذي يظهر هاهنا أن ذلك إشارة إلى أن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فيه مصلحتهم وذلك لأن الأجر لا يطلب إلا عند فعل شيء يفيد المطلوب منه الأجر فقال : أنت أتيتهم بما لو طلبت عليه أجرا وعلموا كمال ما في دعوتك من المنفعة لهم وبهم ، لأتوك بجميع أموالهم ولفدوك بأنفسهم ، ومع هذا لا تطلب منهم أجرا ، ولو قال شيئا أو مالا لما حصلت هذه الفائدة والله أعلم .
المسألة الرابعة : هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما ، وقوله تعالى : (
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى )
[ ص: 228 ] [ الشورى : 23] يدل على أنه طلب أجرا ما فكيف الجمع بينهما ؟ نقول لا تفرقة بينهما بل الكل حق وكلاهما ككلام واحد ، وبيانه هو أن المراد من قوله (
إلا المودة في القربى ) [ الشورى : 23] هو أني لا أسألكم عليه أجرا يعود إلى الدنيا ، وإنما أجري المحبة في الزلفى إلى الله تعالى ، وأن عباد الله الكاملين أقرب إلى الله تعالى من عباده الناقصين ، وعباد الله الذين كلمهم الله وكلموه وأرسلهم لتكميل عباده فكملوا أقرب إلى الله من الذين [ لم يكلمهم] ولم يرسلهم الله ولم يكملوا ، وعلى هذا فهو في معنى قوله (
إن أجري إلا على الله ) [ هود : 29] وإليه أنتمي ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013731فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة " ، وقوله (
فهم من مغرم مثقلون ) وبين ما ذكرنا أن قوله (
أم تسألهم أجرا ) المراد أجر الدنيا ، وقوله (
قل لا أسألكم عليه أجرا ) المراد العموم ثم استثنى ، ولا حاجة إلى ما قاله
الواحدي إن ذلك منقطع معناه لكن المودة في القربى ، وقد ذكرناه هناك فليطلب منه .
المسألة الخامسة : قوله تعالى : (
فهم من مغرم مثقلون ) إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ما طلب منهم شيئا ولو طالبهم بأجر ما كان لهم أن يتركوا اتباعه بأدنى شيء ، اللهم إلا إن أثقلهم التكليف ويأخذ كل ما لهم ويمنعهم التخليف ، فيثقلهم الدين بعدما لا يبقى لهم العين .