(
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى )
ثم قال تعالى : (
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) وفيه مباحث تدق عن إدراك اللغوي إن يكن عنده من العلوم حظ عظيم ، ولنذكر ما قيل فيه أولا فنقول قيل معناه : إن هي إلا
[ ص: 258 ] أسماء ، أي كونها إناثا وكونها معبودات أسماء لا مسمى لها ، فإنها ليست بإناث حقيقة ولا معبودات ، وقيل أسماء أي قلتم بعضها عزى ولا عزة لها ، وقيل قلتم إنها آلهة وليست بآلهة ، والذي نقوله هو أن هذا جواب عن كلامهم ، وذلك على ما بينا أنهم قالوا نحن لا نشك في أن
الله تعالى لم يلد كما تلد النساء ولم يولد كما تولد الرجال بالمجامعة والإحبال ، غير أنا رأينا لفظ الولد مستعملا عند العرب في المسبب تقول : بنت الجبل وبنت الشفة لما يظهر منهما ويوجد ، لكن الملائكة أولاد الله بمعنى أنهم وجدوا بسببه من غير واسطة ، فقلنا إنهم أولاده ، ثم إن الملائكة فيها تاء التأنيث فقلنا هم أولاد مؤنثة ، والولد المؤنث بنت ، فقلنا لهم بنات الله ، أي لا واسطة بينهم وبين الله تعالى في الإيجاد كما تقول الفلاسفة ، فقال تعالى : هذه الأسماء استنبطتموها أنتم بهوى أنفسكم وأطلقتم على الله ما يوهم النقص وذلك غير جائز ، وقوله تعالى : (
ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) [ الزمر : 56] وقوله ( بيدك الخير ) أسماء موهمة غير أنه تعالى أنزلها ، وله أن يسمي نفسه بما اختار ، وليس لأحد أن يسمي بما يوهم النقص من غير ورود الشرع به ، ولنبين التفسير في مسائل :
المسألة الأولى : ( هي ) ضمير عائد إلى ماذا ؟ نقول الظاهر أنها عائدة إلى أمر معلوم وهو الأسماء كأنه قال ما هذه الأسماء التي وضعتموها أنتم وهو المشهور ، ويحتمل أن يقال هي عائدة إلى الأصنام بأنفسها أي ما هذه الأصنام إلا أسماء ، وعلى هذا فهو على سبيل المبالغة والتجوز ، يقال لتحقير إنسان ما زيد إلا اسم ، وما الملك إلا اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة تعتبر في الكلام بين الناس ، ويؤيد هذا القول قوله تعالى : (
ما تعبدون من دونه إلا أسماء ) [ يوسف : 40] أي ما هذه الأصنام إلا أسماء .
المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله (
سميتموها ) مع أن جميع الأسماء وضعوها ، أو بعضها هم وضعوها ولم ينكر عليهم ؟ نقول : المسألة مختلف فيها ولا يتم الذم إلا بقوله تعالى : (
ما أنزل الله بها من سلطان ) وبيانه هو أن
الأسماء إن أنزلها الله تعالى فلا كلام فيها ، وإن وضعها للتفاهم فينبغي أن لا يكون في ضمن تلك الفائدة مفسدة أعظم منها لكن إيهام النقص في صفات الله تعالى أعظم منها ، فالله تعالى ما جوز وضع الأسماء للحقائق إلا حيث تسلم عن المحرم ، فلم يوجد في هذه الأسماء دليل نقلي ولا وجه عقلي ، لأن ارتكاب المفسدة العظيمة لأجل المنفعة القليلة لا يجوزه العاقل ، فإذا (
ما أنزل الله بها من سلطان ) ووضع الاسم لا يكون إلا بدليل نقلي أو عقلي ، وهو أنه يقع خاليا عن وجوه المضار الراجحة .
المسألة الثالثة : كيف قال : (
سميتموها أنتم ) مع أن هذه الأسامي لأصنامهم كانت قبلهم ؟ نقول فيه لطيفة وهي أنهم لو قالوا ما سميناها ، وإنما هي موضوعة قبلنا ، قيل لهم كل من يطلق هذه الألفاظ فهو كالمبتدئ الواضع وذلك لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعا بدليل عقلي لم يجب اتباعه ، فمن يطلق اللفظ لأن فلانا أطلقه لا يصح منه كما لا يصح أن يقول أضلني الأعمى ، ولو قاله لقيل له بل أنت أضللت نفسك حيث اتبعت من عرفت أنه لا يصلح للاقتداء به .
المسألة الرابعة : الأسماء لا تسمى ، وإنما يسمى بها فكيف قال : (
سميتموها ) ؟ نقول عنه جوابان أحدهما : لغوي وهو أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها ، فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها ، ويقال سميته زيدا وسميته بزيد فسميتموها بمعنى سميتم بها .
وثانيهما : معنوي وهو أنه لو قال أسماء سميتم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلق به الباء في قوله ( بها ) لأن قول القائل سميت به يستدعي مفعولا آخر
[ ص: 259 ] تقول سميت بزيد ابني أو عبدي أو غير ذلك ، فيكون قد جعل للأصنام اعتبارا وراء أسمائها ، وإذا قال : (
إن هي إلا أسماء سميتموها ) أي وضعتموها في أنفسها لا مسميات لها لم يكن ذلك ، فإن قيل هذا باطل بقوله تعالى : (
وإني سميتها مريم ) [ آل عمران : 36] حيث لم يقل وإني سميتها
بمريم ، ولم يكن ما ذكرت مقصودا وإلا لكانت
مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام ؟ نقول بينهما بون عظيم وذلك لأن هناك قال : (
سميتها مريم ) فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة
مريم بقوله (
سميتها ) واسمها بقوله ( مريم ) وأما هاهنا فقال : (
إن هي إلا أسماء سميتموها ) أي ما هناك إلا أسماء موضوعة فلم تعتبر الحقيقة هاهنا واعتبرت في
مريم .
المسألة الخامسة : (
ما أنزل الله بها من سلطان ) على أي وجه استعملت الباء في قوله (
بها من سلطان ) ؟ نقول كما يستعمل القائل ارتحل فلان بأهله ومتاعه ، أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع كذا هاهنا .
ثم قال تعالى : (
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ " إن تتبعون " بالتاء على الخطاب ، وهو ظاهر مناسب لقوله تعالى : (
أنتم وآباؤكم ) على المغايبة وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون الخطاب معهم لكنه يكون التفاتا كأنه قطع الكلام معهم ، وقال لنبيه : إنهم لا يتبعون إلا الظن ، فلا تلتفت إلى قولهم .
ثانيهما : أن يكون المراد غيرهم وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون المراد آباءهم وتقديره هو أنه لما قال : (
سميتموها أنتم ) كأنهم قالوا هذه ليست أسماء وضعناها نحن ، وإنما هي كسائر الأسماء تلقيناها ممن قبلنا من آبائنا ، فقال وسماها آباؤكم وما يتبعون إلا الظن ، فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي ، نقول وبصيغة المستقبل أيضا كأنه يفرض الزمان بعد زمان الكلام كما في قوله تعالى : (
وكلبهم باسط ذراعيه ) [ الكهف : 18] .
ثانيهما : أن يكون المراد عامة الكفار كأنه قال :
إن يتبع الكافرون إلا الظن .
المسألة الثانية : ما معنى " الظن " وكيف ذمهم به وقد وجب علينا اتباعه في الفقه ، وقال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012656أنا عند ظن عبدي بي " ؟ نقول أما الظن فهو خلاف العلم وقد استعمل مجازا مكان العلم والعلم مكانه ، وأصل العلم الظهور ومنه العلم والعالم وقد بينا في تفسير العالمين أن حروف ع ل م في تقاليبها فيها معنى الظهور ، ومنها لمع الآل إذا ظهر وميض السراب ولمع الغزال إذا عدا وكذا النعام وفيه الظهور وكذلك علمت ، والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدرى أفيها ماء أم لا ، ومنه الظنين المتهم لا يدرى ما يظن ، نقول يجوز بناء الأمر على الظن الغالب عند العجز عن درك اليقين والاعتقاد ليس كذلك لأن اليقين لم يتعذر علينا ، وإلى هذا إشارة بقوله (
ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) أي اتبعوا الظن ، وقد أمكنهم الأخذ باليقين ، وفي العمل يمتنع ذلك أيضا .
المسألة الثالثة : " ما " في قوله تعالى : (
وما تهوى الأنفس ) خبرية أو مصدرية ؟ نقول فيه وجهان :
أحدهما : مصدرية كأنه قال : (
إن يتبعون إلا الظن ) وهوى الأنفس ، فإن قيل ما الفائدة في العدول عن صريح المصدر إلى الفعل مع زيادة ( ما ) وفيه تطويل ؟ نقول فيه فائدة ، وإنها في أصل الوضع ثم نذكرها هنا فنقول إذا قال القائل أعجبني صنعك يعلم من الصيغة أن الإعجاب من مصدر قد تحقق وكذلك إذا قال أعجبني ما تصنع يعلم أن الإعجاب من مصدر هو فيه فلو قال أعجبني صنعك وله صنع أمس وصنع اليوم لا يعلم أن المعجب أي صنع هو إذا علمت هذا فنقول هاهنا قوله (
وما تهوى الأنفس ) يعلم منه أن المراد أنهم يتبعون
[ ص: 260 ] ما تهوى أنفسهم في الحال والاستقبال إشارة إلى أنهم ليسوا بثابتين على ضلال واحد وما هوت أنفسهم في الماضي شيئا من أنواع العبادة فالتزموا به وداموا عليه بل كل يوم هم يستخرجون عبادة ، وإذا انكسرت أصنامهم اليوم أتوا بغيرها غدا ويغيرون وضع عبادتهم بمقتضى شهوتهم اليوم . ثانيهما : أنها خبرية تقديره ، والذي تشتهيه أنفسهم والفرق بين المصدرية والخبرية أن المتبع على الأول الهوى وعلى الثاني مقتضى الهوى كما إذا قلت أعجبني مصنوعك .
المسألة الرابعة : كيف قال : (
وما تهوى الأنفس ) بلفظ الجمع مع أنهم لا يتبعون ما تهواه كل نفس فإن من النفوس ما لا تهوى ما تهواه غيرها ؟ نقول هو من باب مقابلة الجمع بالجمع معناه اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه يقال خرج الناس بأهليهم أي كل واحد بأهله لا كل واحد بأهل الجمع .
المسألة الخامسة : بين لنا معنى الكلام جملة ! نقول قوله تعالى : (
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) أمران مذكوران يحتمل أن يكون ذكرهما لأمرين تقدير بين يتبعون الظن في الاعتقاد ويتبعون ما تهوى الأنفس في العمل والعبادة وكلاهما فاسد ، لأن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين ، وكيف يجوز اتباع الظن في الأمر العظيم ، وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأحذر ، وأما العمل فالعبادة مخالفة الهوى فكيف تنبئ على متابعته ، ويحتمل أن يكون في أمر واحد على طريقة النزول درجة درجة فقال : (
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) أي وما دون الظن لأن القرونة تهوى ما لا يظن به خير وقوله تعالى : (
ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) إشارة إلى أنهم على حال لا يعتد به ؛ لأن اليقين مقدور عليه وتحقق بمجيء الرسل (
والهدى ) فيه وجوه ثلاثة :
الأولى : القرآن .
الثاني : الرسل .
الثالث : المعجزات .