(
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )
ثم قال تعالى : (
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) .
وقد علم وجه تعلقها بما قبلها في الوجوه المتقدمة في قوله تعالى : (
فلله الآخرة ) إن قلنا إن معناه أن
اللات والعزى وغيرهما ليس لهم من الأمر شيء (
فلله الآخرة والأولى ) فلا يجوز إشراكهم فيقولون نحن لا نشرك بالله شيئا ، وإنما نقول هؤلاء شفعاؤنا ، فقال كيف تشفع هذه ومن في السماوات لا يملك الشفاعة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ( كم ) كلمة تستعمل في المقادير ، إما لاستبانتها فتكون استفهامية كقولك كم ذراعا طوله وكم رجلا جاءك أي كم عدد الجائين تستبين المقدار وهي مثل كيف لاستبانة الأحوال ، وأي لاستبانة الأفراد ، وما لاستبانة الحقائق ، وإما لبيانها على الإجمال فتكون خبرية كقولك كم رجل أكرمني أي كثير منهم أكرموني غير أن عليه أسئلة . الأول : لم لم يجز إدخال من على الاستفهامية وجاز على الخبرية . الثاني : لم نصب مميز الاستفهامية وجر الذي للخبرية . الثالث : هي تستعمل في الخبرية في مقابلة رب فلم جعل اسما مع أن رب حرف ، أما الجواب عن الأول فهو أن من يستعمل في الموضع المتعين بالإضافة ، تقول خاتم من فضة كما تقول خاتم فضة ، ولما لم تضف في الاستفهامية لم يجز استعمال ما يضاهيه وسنبين هذا الجواب ، والجواب عن السؤال الثاني هو أن نقول إن الأصل في المميز الإضافة ، وعن الثالث هو أن كم يدخل عليه حرف الجر فتقول إلى كم تصبر ، وفي كم يوم جئت ، وبكم رجل مررت ، ومن حيث المعنى إن كم إذا قرن بها من وجعل مميزه جمعا كما في قول القائل كم من رجال خدمتهم ويكون معناه كثير من الرجال خدمتهم ، ورب وإن كانت للتقليل لكن لا تقوم مقام القليل ، فلا يمكن أن يقال في رب إنها عبارة عن قليل كما قلنا في كم إنه عبارة عن كثير .
المسألة الثانية : قال شفاعتهم على عود الضمير إلى المعنى ، ولو قال شفاعته لكان العود إلى اللفظ فيجوز أن يقال كم من رجل رأيته ، وكم من رجل رأيتهم ، فإن قلت هل بينهما فرق معنوي ؟ قلت نعم ، وهو أنه تعالى لما قال : (
لا تغني شفاعتهم ) يعني شفاعة الكل ، ولو قال شفاعته ، لكان معناه كثير من الملائكة كل واحد لا تغني شفاعته فربما كان يخطر ببال أحد أن شفاعتهم تغني إذا جمعت ، وعلى هذا ففي الكلام أمور كلها تشير إلى عظم الأمر أحدها : كم فإنه للتكثير . ثانيها : لفظ الملك فإنه أشرف أجناس المخلوقات . ثالثها : في السماوات فإنها إشارة إلى علو منزلتهم ودنو مرتبتهم من مقر السعادة . رابعها : اجتماعهم على الأمر في قوله (
شفاعتهم ) وكل ذلك لبيان فساد قولهم إن الأصنام يشفعون ، أي كيف تشفع مع حقارتها وضعفها ودناءة منزلتها ، فإن الجماد أخس الأجناس، والملائكة أشرفها وهم في أعلى السماوات ولا تقبل شفاعة الملائكة
[ ص: 264 ] فكيف تقبل شفاعة الجمادات .
المسألة الثالثة : ما الفائدة في قوله تعالى : (
وكم من ملك ) بمعنى : كثير من الملائكة مع أن
كل من في السماوات منهم لا يملك الشفاعة ؟ نقول المقصود الرد عليهم في قولهم هذه الأصنام تشفع ، وذلك لا يحصل ببيان أن ملكا من الملائكة لا تقبل شفاعته فاكتفى بذكر الكثيرة ، ولم يقل ما منهم أحد يملك الشفاعة لأنه أقرب إلى المنازعة فيه من قوله كثير مع أن المقصود حاصل به ، ثم هاهنا بحث وهو أن في بعض الصور يستعمل صيغة العموم والمراد الكثير ، وفي البعض يستعمل الكثير والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحدة ، وهو استقلال الباقي وعدم الاعتداد ، ففي قوله تعالى : (
تدمر كل شيء ) [ الأحقاف : 25] كأنه يجعل الخارج عن الحكم غير ملتفت إليه ، وفي قوله تعالى : (
وكم من ملك ) وقوله (
بل أكثرهم لا يعلمون ) ( النحل : 75 ) وقوله (
أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 41] يجعل المخرج غير ملتفت إليه فيجعل كأنه ما أخرجه كالأمر الخارج عن الحكم كأنه ما خرج ، وذلك يختلف باختلاف المقصود من الكلام ، فإن كان الكلام مذكورا لأمر فيه يبالغ يستعمل الكل ، مثاله يقال للملك كل الناس يدعون لك إذا كان الغرض بيان كثرة الدعاء له لا غير ، وإن كان الكلام مذكورا لأمر خارج عنه لا يبالغ فيه ؛ لأن المقصود غيره فلا يستعمل الكل ، مثاله إذا قال الملك لمن قال له : اغتنم دعائي : كثير من الناس يدعون لي ، إشارة إلى عدم احتياجه إلى دعائه لا لبيان كثرة الدعاء له ، فكذلك هاهنا .
المسألة الرابعة : قال : (
لا تغني شفاعتهم ) ولم يقل لا يشفعون مع أن دعواهم أن هؤلاء شفعاؤنا لا أن شفاعتهم تنفع أو تغني ، وقال تعالى في مواضع أخرى (
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255] فنفى الشفاعة بدون الإذن وقال : (
ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ) [ الأنعام : 51] نفى الشفيع وهاهنا نفى الإغناء ؟ نقول : هم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا وكانوا يعتقدون نفع شفاعتهم ، كما قال تعالى : (
ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3] ثم نقول نفي دعواهم يشتمل على فائدة عظيمة ، أما نفي دعواهم لأنهم قالوا : الأصنام تشفع لنا شفاعة مقربة مغنية فقال : (
لا تغني شفاعتهم ) بدليل أن
شفاعة الملائكة لا تغني ، وأما الفائدة فلأنه لما استثنى بقوله (
إلا من بعد أن يأذن الله ) أي فيشفع ، ولكن لا يكون فيه بيان أنها تقبل وتغني أو لا تقبل ، فإذا قال : (
لا تغني شفاعتهم ) ثم قال : (
إلا من بعد أن يأذن الله ) فيكون معناه تغني فيحصل البشارة ، لأنه تعالى قال : (
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ) [ غافر : 7] وقال تعالى : (
ويستغفرون لمن في الأرض ) [ الشورى : 5] والاستغفار شفاعة .
وأما قوله (
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255] فليس المراد نفي الشفاعة وقبولها كما في هذه الآية ، حيث رد عليهم قولهم وإنما المراد عظمة الله تعالى ، وأنه لا ينطق في حضرته أحد ولا يتكلم ، كما في قوله تعالى : (
لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) . [ النبأ : 38]
المسألة الخامسة : اللام في قوله (
لمن يشاء ويرضى ) تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تتعلق بالإذن وهو على طريقين أحدهما : أن يقال إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة ويرضى .
الثاني : أن يكون الإذن في المشفوع له لأن الإذن حاصل للكل في
الشفاعة للمؤمنين لأنهم جميعهم يستغفرون لهم فلا معنى للتخصيص ، ويمكن أن ينازع فيه .
وثانيهما : أن تتعلق بالإغناء ، يعني إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فتغني شفاعتهم لمن يشاء ، ويمكن أن يقال بأن هذا بعيد ، لأن ذلك
[ ص: 265 ] يقتضي أن تشفع الملائكة ، والإغناء لا يحصل إلا لمن يشاء ، فيجاب عنه بأن التنبيه على معنى عظمة الله تعالى فإن الملك إذا شفع فالله تعالى على مشيئته بعد شفاعتهم يغفر لمن يشاء .
المسألة السادسة : ما الفائدة في قوله تعالى : (
ويرضى ) ؟ نقول فيه فائدة الإرشاد ، وذلك لأنه لما قال : (
لمن يشاء ) كان المكلف مترددا لا يعلم مشيئته فقال : (
ويرضى ) ليعلم أنه العابد الشاكر لا المعاند الكافر ، فإنه تعالى قال : (
إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) [ الزمر : 7] فكأنه قال : (
لمن يشاء ) ثم قال : (
ويرضى ) بيانا لمن يشاء ، وجواب آخر على قولنا : لا تغني شفاعتهم شيئا ممن يشاء ، هو أن فاعل يرضى المدلول عليه لمن يشاء ، كأنه قال ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة شيئا صالحا فيحصل به رضاه كما قال : ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة وحينئذ يكون يرضى للبيان لأنه لما قال : (
لا تغني شفاعتهم ) إشارة إلى نفي كل قليل وكثير كان اللازم عنده بالاستثناء أن شفاعتهم تغني شيئا ولو كان قليلا ويرضى المشفوع له ليعلم أنها تغني أكثر من اللازم بالاستثناء ، ويمكن أن يقال (
ويرضى ) لتبيين أن قوله ( يشاء ) ليس المراد المشيئة التي هي الرضا ، فإن الله تعالى إذا شاء الضلالة بعبد لم يرض به ، وإذا شاء الهداية رضي فقال : (
لمن يشاء ويرضى ) ليعلم أن المشيئة ليست هي المشيئة العامة ، إنما هي الخاصة .