(
أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى )
وقوله تعالى : (
أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ) حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق ، فإن من علم الشيء علما تاما لا يؤمر بتعلمه ، والذي جهله جهلا مطلقا وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضا لا يؤمر فقال هذا المتولي : هل علم الكل فجاز له التولي أولم يسمع شيئا وما بلغه دعوة أصلا فيعذر ، ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : (
بما في ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها ، فكأنه تعالى يقول : أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك ، وهذه أمور مذكورة في صحف
موسى ، مثال : يقول القائل لمن توضأ بغير الماء : توضأ بما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فالكلام مع الكل ؛ لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي صلى الله عليه وسلم بما في صحف
موسى .
ثانيهما : أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها ، كما يقول القائل فيما ذكرنا من المثال توضأ بما في القربة لا بما في الجرة ، فيريد عين ذلك لا جنسه وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب ؛ لأنهم الذين نبئوا به .
المسألة الثانية :
صحف موسى وإبراهيم ، هل جمعها لكونها صحفا كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى : (
فقد صغت قلوبكما ) [ التحريم : 4 ] ؟ الظاهر أنها كثيرة ، قال الله تعالى : (
أخذ الألواح ) [ الأعراف : 154 ] وقال تعالى : (
وألقى الألواح ) [ الأعراف : 150 ] وكل لوح صحيفة .
المسألة الثالثة : ما المراد بـ" الذي " فيها ؟ نقول قوله تعالى : (
ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [ النجم : 38 ، 39 ] وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ " أن " بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول : (
وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] ففيه وجوه :
أحدها : هو ما ذكر بقوله : (
ألا تزر وازرة وزر أخرى ) [ النجم : 39 ] وهو الظاهر ، وإنما احتمل غيره ؛ لأن صحف
موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط ،
[ ص: 13 ] وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح ، فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين .
ثانيها : هو أن
الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى : (
إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 18 ، 19 ] .
ثالثها :
أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها ، ولم يخل الله كتابا عنها ، ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (
فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وليس المراد في الفروع ؛ لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك .
المسألة الرابعة : قدم
موسى هاهنا ولم يقل كما قال في (
سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] فهل فيه فائدة ؟ نقول : مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة ، بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم ، فيصح أن يقتصر على هذا الجواب ، ويمكن أن يقال : إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار ، وهاهنا المقصود بيان انتفاء الأعذار ، فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف
إبراهيم قبل صحف
موسى في الإنزال ، وأما هاهنا فقد قلنا : إن الكلام مع أهل الكتاب وهم
اليهود فقدم كتابهم ، وإن قلنا : الخطاب عام
فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود ، فكأنه قيل لهم : انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق ، وأرسل من قبل
موسى رسل ، والتوحيد صدق والحشر واقع ، فلما كانت صحف
موسى عند
اليهود كثيرة الوجود قدمها ، وأما صحف
إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف
موسى فأخر ذكرها .
المسألة الخامسة : كثيرا ما ذكر الله
موسى فأخر ذكره عليه السلام ؛ لأنه كان مبتلى في أكثر الأمر بمن حواليه ، وهم كانوا مشركين ومتهودين ،
والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم ، وأما قوله تعالى : (
وفى ) ففيه وجهان .
أحدهما : أنه الوفاء الذي يذكر في العهود ، وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال : وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل ، وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح ، وورد في حقه : (
قد صدقت الرؤيا ) [ الصافات : 105 ] وقال تعالى : (
إن هذا لهو البلاء المبين ) [ الصافات : 106 ] .
وثانيهما : أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية والإتمام ، يقال : وفاه أي أعطاه تاما ، وعلى هذا فهو من قوله : (
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) [ البقرة : 124 ] وقيل : " وفى " أي أعطى حقوق الله في بدنه ، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه : (
وأعطى قليلا وأكدى ) مدح
إبراهيم ولم يصف
موسى عليه السلام ، نقول : أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهدا إلا وفى به ، وقال لأبيه : (
سأستغفر لك ربي ) [ مريم : 47 ] فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له ، فعلم (
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) وأن وزره لا تزره نفس أخرى ، وأما
مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقا عليه بين
اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفيا ، وموفيا ، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف
موسى عليه السلام ، ثم قال تعالى : (
ألا تزر وازرة وزر أخرى ) وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة ، والذي يحسن بهذا الموضع مسائل :
الأولى : أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله : (
بما في صحف موسى ) هو ما بينه بقوله : (
ألا تزر ) فيكون هذا بدلا عن " ما " وتقديره : أم لم ينبأ بألا تزر ، وذكرنا هناك وجهين .
أحدهما : المراد أن
الآخرة خير وأبقى .
وثانيهما : الأصول .