(
ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) المسألة الثانية : (
ألا تزر ) أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال : أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم
[ ص: 14 ] جائز وغير جائز ، فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل ، ولزم فيها التخفيف ؛ لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى ، والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفا مختصا بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه .
المسألة الثالثة : إن قال قائل : الآية مذكورة لبيان أن
وزر المسيء لا يحمل عنه ، وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة ؛ لأن الوازرة تكون مثقلة بوزرها فيعلم كل أحد أنها لا تحمل شيئا ، ولو قال : لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ ، نقول : ليس كما ظننت ؛ وذلك لأن المراد من
الوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت كما يقال : شقاني الحمل ، وإن لم يكن عليه في الحال حمل ، وإذا لم تزر تلك النفس التي يتوقع منها ذلك فكيف تتحمل وزر غيرها فتكون الفائدة كاملة .
وقوله تعالى : (
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) تتمة بيان أحوال المكلف ، فإنه لما بين له أن سيئته لا يتحملها عنه أحد بين له أن حسنة الغير لا تجدي نفعا ،
ومن لم يعمل صالحا لا ينال خيرا فيكمل بها ويظهر أن
المسيء لا يجد بسبب حسنة الغير ثوابا ، ولا يتحمل عنه أحد عقابا ، وفيه أيضا مسائل :
الأولى : (
ليس للإنسان ) فيه وجهان .
أحدهما : أنه عام وهو الحق ، وقيل عليه بأن في الأخبار أن ما يأتي به القريب من الصدقة والصوم يصل إلى الميت ، والدعاء أيضا نافع فللإنسان شيء لم يسع فيه ، وأيضا قال الله تعالى : (
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] وهي فوق ما سعى ، الجواب عنه أن الإنسان إن لم يسع في أن يكون له صدقة القريب بالإيمان لا يكون له صدقته فليس له إلا ما سعى ، وأما الزيادة فنقول : الله تعالى لما وعد المحسن بالأمثال والعشرة وبالأضعاف المضاعفة فإذا أتى بحسنة راجيا أن يؤتيه الله ما يتفضل به فقد سعى في الأمثال ، فإن قيل : أنتم إذن حملتم السعي على المبادرة إلى الشيء ، يقال : سعى في كذا إذا أسرع إليه ، والسعي في قوله تعالى : (
إلا ما سعى ) معناه العمل يقال : سعى فلان أي : عمل ، ولو كان كما ذكرتم لقال : إلا ما سعى فيه ، نقول : على الوجهين جميعا لا بد من زيادة فإن قوله تعالى : (
ليس للإنسان إلا ما سعى ) ليس المراد منه أن له عين ما سعى ، بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى ، أو إلا أجر ما سعى ، أو يقال : بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة .
الوجه الثاني : أن المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف ، وقيل بأن قوله : (
ليس للإنسان إلا ما سعى ) كان في شرع من تقدم ، ثم إن الله تعالى نسخه في شرع
محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع ، وهو باطل إذ لا حاجة إلى هذا التكليف بعدما بان الحق ، وعلى ما ذكر فقوله : (
ما سعى ) مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ، ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى : (
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [ الزلزلة : 7 ] .
المسألة الثانية : أن " ما " خبرية أو مصدرية ؟ نقول : كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى : (
وأن سعيه سوف يرى ) [ النجم : 40 ] أي : سوف يرى المسعي ، والمصدر للمفعول يجيء كثيرا ، يقال : هذا خلق الله أي : مخلوقه .
المسألة الثالثة : المراد من الآية بيان
ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل ، نقول : المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه
والشر معاقب به ، والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى : (
للإنسان ) فإن اللام لعود المنافع و" على " لعود المضار تقول : هذا له ، وهذا عليه ، ويشهد له ويشهد عليه في المنافع
[ ص: 15 ] والمضار ، وللقائل الأول أن يقول : بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور ، وأيضا يدل عليه قوله تعالى : (
ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) [ النجم : 41 ] والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة ، وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية .
المسألة الرابعة : (
إلا ما سعى ) بصيغة الماضي دون المستقبل لزيادة
الحث على السعي في العمل الصالح ، وتقريره هو أنه تعالى لو قال : ليس للإنسان إلا ما يسعى ، تقول النفس إني أصلي غدا كذا ركعة وأتصدق بكذا درهما ، ثم يجعل مثبتا في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه ، فقال : ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه ، وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها .