(
وأن إلى ربك المنتهى )
ثم قال تعالى : (
وأن إلى ربك المنتهى ) القراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما ، يعني أن هذا أيضا في الصحف وهو الحق ، وقرئ بالكسر على الاستئناف ، وفيه مسائل :
الأولى : ما المراد من الآية ؟ قلنا : فيه وجهان :
أحدهما : وهو المشهور بيان المعاد أي
للناس بين يدي الله وقوف ، وعلى هذا فهو يتصل بما تقدم ؛ لأنه تعالى لما قال : " ثم يجزاه " كأن قائلا قال لا ترى الجزاء ، ومتى يكون ، فقال : إن المرجع إلى الله ، وعند ذلك يجازي الشكور ويجزي الكفور .
وثانيهما : المراد
التوحيد ، وقد فسر الحكماء أكثر الآيات التي فيها الانتهاء والرجوع بما سنذكره غير أن في بعضها تفسيرهم غير ظاهر ، وفي هذا الموضع ظاهر ، فنقول : هو بيان وجود الله تعالى ووحدانيته ، وذلك لأنك إذا نظرت إلى الموجودات الممكنة لا تجد لها بدا من موجد ، ثم إن موجدها ربما يظن أنه ممكن آخر كالحرارة التي تكون على وجه يظن أنها من إشراق الشمس أو من النار فيقال : الشمس والنار ممكنتان فمم وجودهما ؟ فإن استندتا إلى ممكن آخر لم يجد العقل بدا من الانتهاء إلى غير ممكن فهو واجب الوجود فإليه ينتهي الأمر فالرب هو المنتهى ، وهذا في هذا الموضع ظاهر معقول موافق للمنقول ، فإن المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
وأن إلى ربك المنتهى ، لا فكرة في الرب " أي انتهى الأمر إلى واجب الوجود ، وهو الذي لا يكون وجوده بموجد ومنه كل وجود ، وقال
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
إذا ذكر الرب فانتهوا " وهو محتمل لما ذكرنا ، وأما بعض الناس فيبالغ ويفسر كل آية فيها الرجعى والمنتهى وغيرهما بهذا التفسير حتى قيل : (
إليه يصعد الكلم الطيب ) [ فاطر : 10 ] بهذا المعنى وهذا دليل الوجود ، وأما
دليل الوحدانية فمن حيث إن العقل انتهى إلى واجب الوجود من حيث إنه واجب الوجود ؛ لأنه لو لم يكن واجب الوجود لما كان منتهى ، بل يكون له موجد ، فالمنتهى هو الواجب من حيث إنه واجب ، وهذا المعنى واحد في الحقيقة والعقل ؛ لأنه لا بد من
[ ص: 17 ] الانتهاء إلى هذا الواجب أو إلى ذلك الواجب ، فلا يثبت للواجب معنى غير أنه واجب فيبعد إذا وجوبه ، فلو كان واجبان في الوجود لكان كل واحد قبل المنتهى ؛ لأن المجموع قبله الواجب فهو المنتهى ، وهذان دليلان ذكرتهما على وجه الاختصار .
المسألة الثانية : قوله تعالى : (
إلى ربك المنتهى ) في المخاطب وجهان :
أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل .
ثانيهما : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بيان صحة دينه ، فإن كل أحد كان يدعي ربا وإلها ، لكنه صلى الله عليه وسلم لما قال : "
ربي الذي هو أحد وصمد " يحتاج إليه كل ممكن فإذا ربك هو المنتهى ، وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب ، وعلى هذا القول الكاف أحسن موقعا ، أما على قولنا : إن الخطاب عام فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ؛ لأن قوله : أيها السامع كائنا من كان إلى ربك المنتهى يفيد الأمرين إفادة بالغة حد الكمال ، وأما على قولنا : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية لقلبه كأنه يقول : لا تحزن فإن المنتهى إلى الله فيكون كقوله تعالى : (
فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ) إلى أن قال تعالى في آخر السورة : (
وإليه ترجعون ) وأمثاله كثيرة في القرآن .
المسألة الثالثة : اللام على الوجه الأول للعهد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : أبدا إن مرجعكم إلى الله فقال : (
وأن إلى ربك المنتهى ) الموعود المذكور في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى الوجه الثاني للعموم أي إلى الرب كل منتهى وهو مبدأ ، وعلى هذا الوجه نقول : منتهى الإدراكات المدركات ، فإن الإنسان أولا يدرك الأشياء الظاهرة ثم يمعن النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده