(
والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى )
وقوله تعالى : (
والمؤتفكة أهوى )
المؤتفكة المنقلبة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ : " والمؤتفكات " والمشهور فيه أنها قرى قوم
لوط لكن كانت لهم مواضع ائتفكت فهي مؤتفكات ، ويحتمل أن يقال : المراد كل من انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه ؛ ولهذا ختم المهلكين بالمؤتفكات كمن يقول : مات فلان وفلان وكل من كان من أمثالهم وأشكالهم .
المسألة الثانية : (
أهوى ) أي أهواها بمعنى أسقطها ، فقيل : أهواها من الهوى إلى الأرض من حيث حملها
جبريل عليه السلام على جناحه ، ثم قلبها ، وقيل : كانت عمارتهم مرتفعة فأهواها بالزلزلة وجعل عاليها سافلها .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : (
والمؤتفكة أهوى ) على ما قلت كقول القائل : والمنقلبة قلبها وقلب المنقلب تحصيل الحاصل ، نقول : ليس معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قلبها فانقلبت .
المسألة الرابعة : ما الحكمة في اختصاص المؤتفكة باسم الموضع في الذكر ، وقال في
عاد وثمود وقوم نوح اسم القوم ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين .
أحدهما : أن
ثمود اسم الموضع فذكر
عادا باسم القوم ،
وثمود باسم الموضع ،
وقوم نوح باسم القوم ، والمؤتفكة باسم الموضع ؛ ليعلم أن
القوم لا يمكنهم صون أماكنهم عن عذاب الله تعالى ولا الموضع يحصن القوم عنه ، فإن في العادة تارة يقوى الساكن فيذب عن مسكنه ، وأخرى يقوى المسكن فيرد عن ساكنه ، وعذاب الله لا يمنعه مانع ، وهذا المعنى حصل للمؤمنين في آيتين ؛ أحدهما قوله تعالى : (
وكف أيدي الناس عنكم ) [ الفتح : 20 ] وقوله تعالى : (
وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) [ الحشر : 2 ] ففي الأول لم يقدر الساكن على حفظ مسكنه ، وفي الثاني لم يقو الحصن على حفظ الساكن .
والوجه الثاني : هو أن
عادا وثمود وقوم نوح كان أمرهم متقدما ، وأماكنهم كانت قد دثرت ، ولكن أمرهم كان مشهورا متواترا ،
وقوم لوط كانت مساكنهم وآثار الانقلاب فيها ظاهرة ، فذكر الأظهر من الأمرين في كل قوم .
ثم قال تعالى : (
فغشاها ما غشى ) يحتمل أن يكون " ما " مفعولا وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون
[ ص: 23 ] فاعلا يقال : ضربه من ضربه ، وعلى هذا نقول : يحتمل أن يكون الذي غشى هو الله تعالى ، فيكون كقوله : (
والسماء وما بناها ) [ الشمس : 5 ] ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى سبب غضب الله عليهم أي غشاها عليهم السبب ، بمعنى أن الله غضب عليهم بسببه ، يقال : لمن أغضب ملكا بكلام فضربه الملك : كلامك الذي ضربك .