(
وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر )
ثم قال تعالى : (
وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وفجرنا عيون الأرض ، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع ، إذا قلت : ضاق زيد ذرعا ، أثبت ما لا يثبته قولك ضاق ذرع زيد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال : (
وفجرنا الأرض عيونا ) ولم يقل ففتحنا السماء أبوابا ؛ لأن
السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة ، ولهذا قال : (
أبواب السماء ) ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها .
وأما قوله تعالى : (
وفجرنا الأرض عيونا ) فهو أبلغ من قوله : وفجرنا عيون الأرض ؛ لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه ، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيونا ثلاثة ، ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل : فأنزلنا من السماء ماء أو مياها ، ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة ، والحكمة قوله تعالى : (
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) [ الزمر : 21 ] حيث لا مبالغة فيه ، وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه ، غير أني ذكرته مثلا : (
ولله المثل الأعلى ) [ النحل : 60 ] .
المسألة الثانية :
العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز ؟ نقول : المشهور أن لفظ العين مشترك ، والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها ، أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع ، أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالبا حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين ، فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة ، كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل : شربت من العين واغتسلت منها وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع ، ويقال : عانه يعينه إذا أصابه بالعين ، وعينه تعيينا ، حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين ، وعاينه معاينة وعيانا ، وعين أي صار بحيث تقع عليه العين .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : (
فالتقى الماء ) قرئ " فالتقى الماءان " أي النوعان منه : ماء السماء وماء
[ ص: 35 ] الأرض ، فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف ، وتجمع أيضا ، يقال : عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه . والصحيح المشهور : (
فالتقى الماء ) وله معنى لطيف ، وذلك أنه تعالى لما قال : (
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة ، فلما قال : (
وفجرنا الأرض عيونا ) كان من الحسن البديع أن يقول : ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة ، فقال : (
فالتقى الماء ) أي : فار الماء من العين بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء ، ولو جرى جريا ضعيفا لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به ، ولعل المراد من قوله : (
وفار التنور ) [ هود : 40 ] مثل هذا .
وقوله تعالى : (
على أمر قد قدر ) فيه وجوه :
الأول : على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء .
الثاني : على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر .
الثالث : على سائر المقادير ، وذلك لأن الناس اختلفوا ، فمنهم من قال : ماء السماء كان أكثر ، ومنهم من قال : ماء الأرض ، ومنهم من قال : كانا متساويين ، فقال : على أي مقدار كان ، والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان ، فإن تنكير الأمر يفيد ذلك ، يقول القائل : جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال ، إشارة إلى عظمته ، وفيه احتمال آخر ، وهو أن يقال : التقى الماء ، أي اجتمع على أمر هلاكهم ، وهو كان مقدورا مقدرا ، وفيه رد على المنجمين الذين يقولون : إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي ، والغرق لم يكن مقصودا بالذات ، وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه ، فقال : لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر ، ويدل عليه أن
الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين .