(
فكيف كان عذابي ونذر )
ثم قال تعالى : (
فكيف كان عذابي ونذر ) وفيه وجهان .
أحدهما : أن يكون ذلك استفهاما من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له ووعدا بالعاقبة .
وثانيهما : أن يكون عاما تنبيها للخلق و" نذر " أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسر في قوله تعالى : (
والليل إذا يسري ) [ الفجر : 4 ] وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى : (
فإياي فاعبدون ) [ العنكبوت : 56 ] (
ولا هم ينقذون ) [ يس : 43 ] [ الزمر : 16 ] وقوله تعالى : (
ياعباد فاتقون ) [ الزمر : 16 ] وقوله تعالى : (
ولا تكفرون ) [ البقرة : 152 ] وقرئ بإثبات الياء : " عذابي ونذري " وفيه مسائل :
[ ص: 38 ]
الأولى : ما الذي اقتضى الفاء في قوله تعالى : (
فكيف كان ) ؟ نقول : أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه تعالى قال له : قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي : بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك ، وأما إن قلنا : الاستفهام عام فنقول : لما قال : (
فهل من مدكر ) [ القمر : 15 ] فرض وجودهم وقال : يا من يتذكر ، وعلم الحال بالتذكير : (
فكيف كان عذابي ) ويحتمل أن يقال : هو متصل بقوله : (
فهل من مدكر ) تقديره كيف كان عذابي .
المسألة الثانية : ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم ؟ نقول : أما على قولنا الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم لما علم ، وأما على قولنا عام فهو على تقدير الادكار وعلى تقدير الادكار يعلم الحال ، ويحتمل أن يقال : إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى : (
الحاقة ما الحاقة ) [ الحاقة : 1 ، 2 ] و (
القارعة ما القارعة ) [ القارعة : 1 ، 2 ] وهذا لأن الاستفهام يذكر للإخبار كما أن صيغة " هل " تذكر للاستفهام ، فيقال : زيد في الدار ؟ بمعنى هل زيد في الدار ، ويقول المنجز وعده هل صدقت ؟ فكأنه تعالى قال : عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيما وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه .
المسألة الثالثة : قال تعالى من قبل : (
ففتحنا ) [ القمر : 11 ] ، (
وفجرنا ) [ القمر : 12 ] ، و (
بأعيننا ) [القمر : 14 ] ولم يقل : كيف كان عذابنا نقول : لوجهين .
أحدهما : لفظي وهو أن ياء المتكلم يمكن حذفها ؛ لأنها في اللفظ تسقط كثيرا فيما إذا التقى ساكنان ، تقول : غلامي الذي ، وداري التي ، وهنا حذفت لتواخي آخر الآيات ، وأما النون والألف في ضمير الجمع فلا تحذف .
وأما الثاني : وهو المعنوي فنقول : إن كان الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فتوحيد الضمير للأنباء ، وفي فتحنا وفجرنا لترهيب العصاة ، ونقول : قد ذكرنا أن قوله : ( مدكر ) فيه إشارة إلى قوله : (
ألست بربكم ) فلما وحد الضمير بقوله : (
ألست بربكم ) قال فكيف كان .
المسألة الرابعة : النذر جمع نذير فهل هو مصدر كالنسيب والنحيب أو فاعل كالكبير والصغير ؟ نقول : أكثر المفسرين على أنه مصدر هاهنا ، أي : كيف كان عاقبة عذابي وعاقبة إنذاري ، والظاهر أن المراد الأنباء ، أي : كيف كان
عاقبة أعداء الله ورسله ؟ هل أصاب العذاب من كذب الرسل أم لا ؟ فإذا علمت الحال يا
محمد فاصبر فإن عاقبة أمرك كعاقبة أولئك النذر ، ولم يجمع العذاب ؛ لأنه مصدر ولو جمع لكان في جمعه تقدير وفرض ولا حاجة إليه ، فإن قيل : قوله تعالى : (
كذبت ثمود بالنذر ) [ القمر : 23 ] أي بالإنذارات ؛ لأن الإنذارات جاءتهم ، وأما الرسل فقد جاءهم واحد ، نقول : كل من تقدم من الأمم الذين أشركوا بالله وكذبوا بالرسل وقالوا : ما أنزل الله من شيء ، وكان المشركون مكذبين بالكل ما خلا
إبراهيم عليه السلام ، فكانوا يعتقدون فيه الخير ؛ لكونه
شيخ المرسلين فلا يقال : (
كذبت ثمود بالنذر ) أي بالأنبياء بأسرهم ، كما أنكم أيها المشركون تكذبون بهم .