(
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر )
ثم قال تعالى : (
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى : (
فكيف كان عذابي ) بتوحيد الضمير هناك ولم يقل : عذابنا ، وقال هاهنا : " إنا " ، ولم يقل : " إني " ، والجواب ما ذكرناه في قوله تعالى : (
ففتحنا أبواب السماء ) [ القمر : 11 ] .
المسألة الثانية : الصرصر فيها وجوه :
أحدها :
الريح الشديدة الصوت من الصرير والصرة شدة الصياح .
ثانيها : دائمة الهبوب من أصر على الشيء إذا دام وثبت ، وفيه بحث وهو أن الأسماء المشتقة هي التي تصلح لأن يوصف بها ، وأما أسماء الأجناس فلا يوصف بها سواء كانت أجراما أو معاني ، فلا يقال : إنسان رجل جاء ، ولا يقال : لون أبيض وإنما يقال : إنسان عالم وجسم أبيض . وقولنا : أبيض معناه شيء له بياض ، ولا يكون الجسم مأخوذا فيه ، ويظهر ذلك في قولنا رجل عالم فإن العالم شيء له علم حتى الحداد والخباز ، ولو أمكن قيام العلم بهما لكان عالما ، ولا يدخل الحي في المعنى من حيث المفهوم ، فإنا إذا قلنا : عالم يفهم أن ذلك حي ؛ لأن اللفظ ما وضع لحي يعلم بل اللفظ وضع لشيء يعلم ، ويزيده ظهورا قولنا : معلوم فإنه شيء يعلم أو أمر يعلم وإن لم يكن شيئا ، ولو دخل الجسم في الأبيض لكان قولنا جسم أبيض كقولنا جسم له بياض فيقع الوصف بالجثة ، إذا علمت هذا فمن المستفاد بالجنس شيء دون شيء ، فإن قولنا الهندي يقع على كل منسوب إلى الهند وأما المهند فهو سيف منسوب إلى الهند فيصح أن يقال : عبد هندي وتمر هندي ولا يصح أن يقال : مهند وكذا الأبلق ولون آخر في فرس ولا يقال للثوب : أبلق ، كذلك الأفطس أنف فيه تقعير إذا قال لقائل :
[ ص: 41 ] أنف أفطس فيكون كأنه قال : أنف به فطس ، فيكون وصفه بالجثة ، وكان ينبغي أن لا يقال : فرس أبلق ولا أنف أفطس ولا سيف مهند ، وهم يقولون ، فما الجواب ؟ وهذا السؤال يرد على الصرصر ؛ لأنها الريح الباردة ، فإذا قال : ريح صرصر فليس ذلك كقولنا : ريح باردة فإن الصرصر هي الريح الباردة فحسب ، فكأنه قال : ريح باردة ، فنقول : الألفاظ التي في معانيها أمران فصاعدا ، كقولنا : عالم فإنه يدل على شيء له علم ففيه شيء وعلم هي على ثلاثة أقسام .
أحدها : أن يكون الحال هو المقصود والمحل تبع كما في العالم والضارب والأبيض فإن المقاصد في هذه الألفاظ العلم والضرب والبياض بخصوصها ، وأما المحل فمقصود من حيث إنه على عمومه حتى أن البياض لو كان يبدل بلون غيره اختل مقصوده كالأسود . وأما الجسم الذي هو محل البياض إن أمكن أن يبدل ، وأمكن قيام البياض بجوهر غير جسم لما اختل الغرض .
ثانيها : أن يكون المحل هو المقصود ؛ كقولنا : الحيوان ؛ لأنه اسم لجنس ما له الحياة لا كالحي الذي هو اسم لشيء له الحياة ، فالمقصود هنا المحل وهو الجسم حتى لو وجد حي ليس بجسم لا يحصل مقصود من قال : الحيوان ولو حمل اللفظ على الله الحي الذي لا يموت لحصل غرض المتكلم ، ولو حمل لفظ الحيوان على فرس قائم أو إنسان نائم لم تفارقه الحياة لم يبق للسامع نفع ولم يحصل للمتكلم غرض ، فإن القائل إذا قال لإنسان قائم وهو ميت : هذا حيوان ، ثم بان موته لا يرجع عما قال بل يقول : ما قلت: إنه حي ، بل قلت : إنه حيوان ، فهو حيوان فارقته الحياة .
ثالثها : ما يكون الأمران مقصودين كقولنا رجل وامرأة وناقة وجمل ، فإن الرجل اسم موضوع لإنسان ذكر والمرأة لإنسان أنثى ، والناقة لبعير أنثى والجمل لبعير ذكر ، فالناقة إن أطلقت على حيوان فظهر فرسا أو ثورا اختل الغرض وإن بان جملا كذلك ، إذا علمت هذا ففي كل صورة كان المحل مقصودا إما وحده وإما مع الحال فلا يوصف به ، فلا يقال : جسم حيوان ، ولا يقال : بعير ناقة ، وإنما يجعل ذلك جملة ، فيوصف بالجملة ، فيقال : جسم هو حيوان وبعير هو ناقة ، ثم إن الأبلق والأفطس شأنه الحيوان من وجه وشأنه العالم من وجه ، وكذلك المهند لكن دليل ترجيح الحال فيه ظاهر ؛ لأن المهند لا يذكر إلا لمدح السيف ، والأفطس لا يقال إلا لوصف الأنف لا لحقيقته ، وكذلك الأبلق ، بخلاف الحيوان فإنه لا يقال لوصفه ، وكذلك الناقة ، إذا علمت هذا
فالصرصر يقال لشدة الريح أو لبردها ، فوجب أن يعمل به ما يعمل بالبارد والشديد فجاز الوصف وهذا بحث عزيز .
المسألة الثالثة : قال تعالى هاهنا (
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) وقال في الذاريات : (
وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) [ الذاريات : 41 ] فعرف الريح هناك ونكرها هنا ؛ لأن العقم في الريح أظهر من البرد الذي يضر النبات أو الشدة التي تعصف الأشجار ؛ لأن الريح العقيم هي التي لا تنشئ سحابا ولا تلقح شجرا وهي كثيرة الوقوع ، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما توجد ، فقال : " الريح العقيم " أي : هذا الجنس المعروف ، ثم زاده بيانا بقوله : (
ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) [ الذاريات : 42 ] فتميزت عن الريح العقيم ، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكرها .
المسألة الرابعة : قال هنا (
في يوم نحس مستمر ) وقال في فصلت : (
في أيام نحسات ) [ فصلت : 16 ] وقال في الحاقة : (
سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) [ الحاقة : 7 ] والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله تعالى : (
يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) [ مريم : 33 ] وقوله : ( مستمر ) يفيد ما يفيده الأيام ؛ لأن الاستمرار ينبئ عن إمرار الزمان كما ينبئ عنه الأيام ، وإنما اختلف اللفظ مع اتحاد المعنى ؛ لأن الحكاية
[ ص: 42 ] هنا مذكورة على سبيل الاختصار ، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره ولذلك لم يصفها ، ثم إن فيه قراءتين إحداهما : (
يوم نحس ) بإضافة يوم ، وتسكين نحس على وزن نفس ، وثانيتهما : ( يوم نحس ) بتنوين الميم وكسر الحاء على
وصف اليوم بالنحس ، كما في قوله تعالى : (
في أيام نحسات ) فإن قيل : أيتهما أقرب ؟ قلنا : الإضافة أصح ، وذلك لأن من يقرأ : " يوم نحس مستمر " يجعل المستمر صفة ليوم ، ومن يقرأ " يوم نحس مستمر " يكون المستمر وصفا لنحس ، فيحصل منه استمرار النحوسة فالأول أظهر وأليق ، فإن قيل : من يقرأ " يوم نحس " بسكون الحاء ، فماذا يقول في النحس ؟ نقول : يحتمل أن يقول هو تخفيف نحس كفخذ وفخذ في غير الصفات ، ونصر ونصر ورعد ورعد ، وعلى هذا يلزمه أن يقول تقديره : يوم كائن نحس ، كما تقول في قوله تعالى : (
بجانب الغربي ) [ القصص : 44 ] ويحتمل أن يقول : " نحس " ليس بنعت ، بل هو اسم معنى أو مصدر ، فيكون كقولهم " يوم برد وحر " ، وهو أقرب وأصح .
المسألة الخامسة : ما معنى " مستمر " ؟ نقول : فيه وجوه :
الأول : ممتد ثابت مدة مديدة من استمر الأمر إذا دام ، وهذا كقوله تعالى : (
في أيام نحسات ) لأن الجمع يفيد معنى الاستمرار والامتداد ، وكذلك قوله : (
حسوما ) [ الحاقة : 7 ] .
الثاني : شديد من المرة كما قلنا من قبل في قوله : (
سحر مستمر ) [ القمر : 2 ] وهذا كقولهم " أيام الشدائد " ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (
في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب .