(
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر )
ثم قال تعالى : (
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : (
تنزع الناس ) وصف أو حال ؟ نقول : يحتمل الأمرين جميعا ، إذ يصح أن يقال :
أرسل ريحا صرصرا نازعة للناس ، ويصح أن يقال : أرسل الريح نازعة ، فإن قيل : كيف يمكن جعلها حالا ، وذو الحال نكرة ؟ نقول : الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى : (
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ) [ القمر : 4 ] فإنه نكرة ، وأجابوا عنه بأن ( ما ) موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال ، فكذلك نقول : هاهنا الريح موصوفة بالصرصر ، والتنكير فيه للتعظيم ، وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال . وفيه وجه آخر ، وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل ، كما تقول : جاء زيد جذبني ، وتقديره ، جاء فجذبني ، كذلك هاهنا قال : (
إنا أرسلنا عليهم ريحا ) فأصبحت (
تنزع الناس ) ويدل عليه قوله تعالى : (
فترى القوم فيها صرعى ) [ الحاقة : 7 ] فالتاء في قوله : (
تنزع الناس ) إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : (
صرعى ) وقوله تعالى : (
كأنهم أعجاز نخل منقعر ) فيه وجوه .
أحدها : نزعتهم فصرعتهم (
كأنهم أعجاز نخل ) كما قال : (
صرعى كأنهم أعجاز نخل ) [ الحاقة : 7 ] .
ثانيها : نزعتهم فهم بعد النزع (
كأنهم أعجاز نخل ) وهذا أقرب ؛ لأن الانقعار قبل الوقوع ، فكأن الريح تنزع الواحد وتقعره فينقعر فيقع فيكون صريعا ، فيخلو الموضع عنه فيخوى ، وقوله في الحاقة : (
فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ) إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع ، وهذا يفيد أن الحكاية هاهنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية ، فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه .
ثالثها : تنزعهم نزعا بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة
[ ص: 43 ] إلى قوتهم وثباتهم على الأرض ، وفي المعنى وجوه :
أحدها : أنه ذكر ذلك إشارة إلى
عظمة أجسادهم وطول أقدادهم .
ثانيها : ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض ، فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح .
وثالثها : ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح ، فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة .
المسألة الثانية : قال هاهنا : (
منقعر ) فذكر النخل ، وقال في الحاقة : (
كأنهم أعجاز نخل خاوية ) فأنثها ، قال المفسرون : في تلك السورة كانت أواخر الآيات تقتضي ذلك ؛ لقوله : (
مستمر ) [ القمر : 2 ] ، و (
منهمر ) [ القمر : 11 ] ، و (
منتشر ) [ القمر : 7 ] وهو جواب حسن ، فإن الكلام كما يزين بحسن المعنى يزين بحسن اللفظ ، ويمكن أن يقال : النخل لفظه لفظ الواحد ، كالبقل والنمل ، ومعناه معنى الجمع ، فيجوز أن يقال فيه : نخل منقعر ومنقعرة ومنقعرات ، ونخل خاو وخاوية وخاويات ، ونخل باسق وباسقة وباسقات ، فإذا قال قائل : منقعر أو خاو أو باسق جرد النظر إلى اللفظ ولم يراع جانب المعنى ، وإذا قال : منقعرات أو خاويات أو باسقات جرد النظر إلى المعنى ولم يراع جانب اللفظ ، وإذا قال : منقعرة أو خاوية أو باسقة جمع بين الاعتبارين من حيث وحدة اللفظ ، وربما قال : منقعرة على الإفراد من حيث اللفظ ، وألحق به تاء التأنيث التي في الجماعة إذا عرفت هذا فنقول : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ، ووصفها على الوجوه الثلاثة ، فقال : (
والنخل باسقات ) [ ق : 10 ] فإنها حال منها وهي كالوصف ، وقال : (
نخل خاوية ) [ الحاقة : 7 ] وقال : (
نخل منقعر ) فحيث قال : (
منقعر ) كان المختار ذلك ؛ لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول ؛ لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور ، والخاوي والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولا ، كما تقول : امرأة كفيل ، وامرأة كفيلة ، وامرأة كبير ، وامرأة كبيرة . وأما الباسقات ، فهي فاعلات حقيقة ؛ لأن البسوق أمر قام بها ، وأما الخاوية ، فهي من باب حسن الوجه ؛ لأن الخاوي موضعها ، فكأنه قال : نخل خاوية المواضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ ، فكان الدليل يقتضي ذلك ، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية .