[ ص: 49 ] (
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر )
ثم قال تعالى : (
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ) أي : مقسوم ، وصف بالمصدر مراد به المشتق منه كقوله : " ماء ملح " ، و" قول زور " وفيه ضرب من المبالغة ، يقال للكريم : كرم كأنه هو عين الكرم ، ويقال : فلان لطف محض ، ويحتمل أن تكون القسمة وقعت بينهما ؛ لأن الناقة كانت عظيمة وكانت حيوانات القوم تنفر منها ولا ترد الماء وهي على الماء ، فصعب عليهم ذلك ، فجعل الماء بينهما ؛ يوما للناقة ويوما للقوم ، ويحتمل أن تكون لقلة الماء ، فشربه يوما للناقة ويوما للحيوانات ، ويحتمل أن يكون الماء كان بينهم قسمة يوما لقوم ويوما لقوم ، ولما
خلق الله الناقة كانت ترد الماء يوما يوما ، فكان الذين لهم الماء في غير يوم ورودها يقولون : الماء كله لنا في هذا اليوم ويومكم كان أمس ، والناقة ما أخرت شيئا فلا نمكنكم من الورود أيضا في هذا اليوم ، فيكون النقصان واردا على الكل ، وكانت الناقة تشرب الماء بأسره وهذا أيضا ظاهر ومنقول ، والمشهور هنا الوجه الأوسط ، ونقول : إن قوما كانوا يكتفون بلبنها يوم ورودها الماء ، والكل ممكن ولم يرد في شيء خبر متواتر .
والثالث : قطع وهو من القسمة ؛ لأنها مثبتة بكتاب الله تعالى أما كيفية القسمة والسبب فلا وقوله تعالى : (
كل شرب محتضر ) مما يؤيد الوجه الثالث أي : كل شرب محتضر للقوم بأسرهم ؛ لأنه لو كان ذلك لبيان كون الشرب محتضرا للقوم أو الناقة فهو معلوم ؛ لأن الماء ما كان يترك من غير حضور ، وإن كان لبيان أنه تحضره الناقة يوما والقوم يوما فلا دلالة في اللفظ عليه ، وأما إذا كانت العادة قبل الناقة على أن يرد الماء قوم في يوم وآخرون في يوم آخر ، ثم لما خلقت الناقة كانت تنقص شرب البعض ، وتترك شرب الباقين من غير نقصان ، فقال : (
كل شرب محتضر ) كم أيها القوم فردوا كل يوم الماء ، وكل شرب ناقص تقاسموه ، وكل شرب كامل تقاسموه .
ثم قال : (
فنادوا صاحبهم ) نداء المستغيث كأنهم قالوا : يا لقدار للقوم ، كما يقول القائل بالله للمسلمين وصاحبهم قدار ، وكان أشجع وأهجم على الأمور ، ويحتمل أن يكون رئيسهم .
وقوله تعالى : (
فتعاطى فعقر ) يحتمل وجوها :
الأول : تعاطى آلة العقر فعقر .
الثاني : تعاطى الناقة فعقرها وهو أضعف .
الثالث : التعاطي يطلق ويراد به الإقدام على الفعل العظيم ، والتحقيق هو أن الفعل العظيم يقدم كل أحد فيه صاحبه ، ويبرئ نفسه منه فمن يقبله ويقدم عليه ، يقال : تعاطاه كأنه كان فيه تدافع فأخذه هو بعد التدافع .
الرابع : أن القوم جعلوا له على عمله جعلا فتعاطاه وعقر الناقة .