(
وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان )
فقال : (
وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له وله السماوات وما فيها والأرض وما عليها ؟ نقول : هذا الكلام مع العوام ، فذكر ما لا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلا عن الفاضل الذكي ، فقال : لا شك أن الفلك في البحر لا يملكه في الحقيقة أحد إذ لا تصرف لأحد في هذا الفلك وإنما كلهم منتظرون رحمة الله تعالى معترفون بأن أموالهم وأرواحهم في قبضة
قدرة الله تعالى . وهم في ذلك يقولون : لك الفلك ولك الملك ، وينسبون البحر والفلك إليه ، ثم إذا خرجوا ونظروا إلى بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وخفي عليهم وجوه الهلاك ، يدعون مالك الفلك ، وينسبون ما كانوا ينسبون البحر والفلك إليه ، وإليه الإشارة بقوله : (
فإذا ركبوا في الفلك ) [ العنكبوت : 65 ] الآية .
المسألة الثانية : (
الجواري ) جمع جارية ، وهي اسم للسفينة أو صفة ، فإن كانت اسما لزم الاشتراك والأصل عدمه ، وإن كانت صفة الأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف ، ولم يذكر الموصوف هنا ، فنقول : الظاهر أن تكون صفة للتي تجري ، ونقل عن
الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري ، وسميت المملوكة جارية لأن الحرة تراد للسكن والازدواج ، والمملوكة لتجري في الحوائج ، لكنها غلبت السفينة ، لأنها في أكثر أحوالها تجري ، ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية ، ثم صار يطلق عليها ذلك وإن لم تجر ، حتى يقال للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية ، لما أنها تجري ، وللمملوكة الجالسة جارية للغلبة ، ترك الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه ، فقوله تعالى : (
وله الجواري ) أي السفن الجاريات ، على أن السفينة أيضا فعيلة من السفن وهو النحت ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند ابن دريد أي تسفن الماء ، أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة ، فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك وفيه لطيفة لفظية : وهي أن الله تعالى لما أمر
نوحا عليه السلام باتخاذ السفينة ، قال : (
واصنع الفلك بأعيننا ) [ هود : 37 ] ففي أول الأمر قال لها : الفلك لأنها بعد لم تكن جرت ، ثم سماها بعدما عملها سفينة كما قال تعالى : (
فأنجيناه وأصحاب السفينة ) [ العنكبوت : 15 ] وسماها جارية كما قال تعالى : (
إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ) [ الحاقة : 11 ] وقد عرفنا أمر الفلك وجريها وصارت كالمسماة بها ، فالفلك قبل الكل ، ثم السفينة ثم الجارية .
المسألة الثالثة : ما معنى المنشئات ؟ نقول : فيه وجهان : أحدهما : المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، وأنشأه الله إذا رفعه ، وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر ، وإما مرفوعات الشراع . وثانيهما : المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه ، فإن قيل : الوجه الثاني بعيد لأن قوله : (
في البحر كالأعلام )
[ ص: 92 ] متعلق بالمنشآت فكأنه قال : وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام ، وهذا غير مناسب ، وأما على الأول فيكون كأنه قال : الجواري التي دفعت في البحر كالأعلام ، وذلك جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول : الرجل الجريء في الحرب كالأسد فيكون حسنا ، ولو قلت : الرجل العالم بدل الجريء في الحرب كالأسد لا يكون كذلك ، نقول : إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف ، كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله : (
في البحر كالأعلام ) لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام ، فيكون أكثر بيانا للقدرة كأنه قال : له السفن التي تجري في البحر كالأعلام ، أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى ، فالأعلام جمع العلم الذي هو الجبل ، وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف ، فلا عجب فيه ، وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل في الماء ، وتكون المنشآت معروفة ، كما أنك تقول : الرجل الحسن الجالس كالقمر فيكون متعلق قولك كالقمر الحسن لا الجالس ، فيكون منشأ للقدرة ، إذ السفن كالجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى .
المسألة الرابعة : قرئ " المنشآت " بكسر الشين ، ويحتمل حينئذ أن يكون قوله : (
كالأعلام ) ، يقوم مقام الجملة ، والجواري معرفة ولا توصف المعارف بالجمل ، فلا نقول : الرجل كالأسد جاءني ولا الرجل هو أسد جاءني ، وتقول : رجل كالأسد جاءني ، ورجل هو أسد جاءني ، فلا تحمل قراءة الفتح إلا على أن يكون حالا وهو على وجهين . أحدهما : أن تجعل الكاف اسما فيكون كأنه قال : الجواري المنشآت شبه الأعلام . ثانيهما : يقدر حالا هذا شبهه كأنه يقول : كالأعلام ويدل عليه قوله : (
في موج كالجبال ) [ هود : 42 ] .
المسألة الخامسة : في جمع الجواري وتوحيد البحر وجمع الأعلام فائدة عظيمة ، وهي أن ذلك إشارة إلى عظمة البحر ، ولو قال : في البحار لكانت كل جارية في بحر ، فيكون البحر دون بحر يكون فيه الجواري التي هي كالجبال ، وأما إذا كان البحر واحدا وفيه الجواري التي هي كالجبال يكون ذلك بحرا عظيما وساحله بعيدا فيكون الإنجاء بقدرة كاملة .