(
كل من عليها فان )
ثم قال تعالى : (
كل من عليها فان ) وفيه وجهان : أحدهما : وهو الصحيح أن الضمير عائد إلى الأرض ، وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة ، قال تعالى : (
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ) [ فاطر : 45 ] الآية وعلى هذا فله ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأنه تعالى لما قال : (
وله الجواري المنشآت ) إشارة إلى أن كل أحد يعرف ويجزم بأنه إذا كان في البحر فروحه وجسمه وماله في قبضة الله تعالى ، فإذا خرج إلى البر ونظر إلى الثبات الذي للأرض والتمكن الذي له فيها ينسى أمره فذكره وقال : لا فرق بين الحالتين بالنسبة إلى
قدرة الله تعالى وكل من على وجه الأرض فإنه كمن على وجه الماء ، ولو أمعن العاقل النظر لكان رسوب الأرض الثقيلة في الماء الذي هي عليه أقرب إلى العقل من رسوب الفلك الخفيفة فيه . الثاني : أن الضمير عائد إلى الجارية إلا أنه بضرورة ما قبلها كأنه تعالى قال : الجواري ولا شك في أن كل من فيها إلى الفناء أقرب ، فكيف يمكنه إنكار كونه في ملك الله تعالى وهو لا يملك لنفسه في تلك الحالة نفعا ولا ضرا ، وقوله تعالى : (
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) يدل على أن الصحيح الأول وفيه مسائل :
[ ص: 93 ] المسألة الأولى : (
من ) للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان ، فما فائدة الاختصاص بالعقلاء ؟ نقول : المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر .
المسألة الثانية : الفاني هو الذي فني وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان ، نقول كقوله : (
إنك ميت ) [ الزمر : 30 ] وكما يقال للقريب إنه واصل ، وجواب آخر : وهو أن وجود الإنسان عرض وهو غير باق وليس بباق فهو فان ،
فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم ، أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار ، ولا يقال هذا تثبيت بالمذهب الباطل الذي هو القول بأن الجسم لا يبقى زمانين كما قيل في العرض ، لأنا نقول قوله (
من ) بدل قوله " ما " ينفي ذلك التوهم لأني قلت : من عليها فان لا بقاء له ، وما قلت : ما عليها فان ، ومن مع كونه على الأرض يتناول جسما قام به أعراض بعضها الحياة والأعراض غير باقية ، فالمجموع لم يبق كما كان وإنما الباقي أحد جزأيه وهو الجسم وليس يطلق عليه بطريق الحقيقة لفظة " من " ، فالفاني ليس ما عليها وما عليها ليس بباق .
المسألة الثالثة : ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال : (
فان ) ؟ نقول : فيه فوائد ( منها ) : الحث على
العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة ، ( ومنها ) : المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول : إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله معتمدا على ماله وملكه ، ( ومنها ) : الأمر
بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر بالله معتمدا على أن الأمر ذاهب والضر زائل ، ومنها : ترك اتخاذ الغير معبودا والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب ، فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم ، لأنه إن مات قبلهم يلقى الله كالعبد الآبق ، وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه ، ويستحي ممن كان يتكبر عليه ، وإن ماتا جميعا فلقاء الله عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة ، ( ومنها ) : الحث على
التوحيد ، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا ؛ لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد .