(
ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ثم قال تعالى : (
ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه لطائف : الأولى : التعريف في عذاب جهنم قال : (
هذه جهنم ) والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد ، وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ، ثم بعدها مراتب وزيادات . الثانية : قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45 ] أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي ،
والخشية خوف سببه عظمة المخشي ، قال تعالى : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] وقال تعالى : (
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ الحشر : 21 ] أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته ، وكذلك قوله تعالى : (
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ الأحزاب : 37 ] وإنما قلنا : إن الخشية تدل على ما ذكرنا ؛ لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في ( خ ش ي ) ، وقال تعالى في الخوف : (
ولا تخف سنعيدها )
[ ص: 108 ] [ طه : 21 ] لما كان الخوف يضعف في
موسى ، وقال : (
لا تخف ولا تحزن ) [ العنكبوت : 33 ] وقال : (
فأخاف أن يقتلون ) [ القصص : 33 ] وقال : (
وإني خفت الموالي من ورائي ) [ مريم : 5 ] ويدل عليه تقاليب ( خ و ف ) فإن قولك خفي قريب منه ، والخافي فيه ضعف ، والأخيف يدل عليه أيضا ، وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي ، والعبد من الله خائف وخاش ؛ لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف ، وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش ، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف ، فلهذا قال : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) جعله منحصرا فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه ، وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته ، بل تزداد خشيتهم ، وأما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه ، فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك ، فلذلك قال تعالى : (
ولمن خاف مقام ربه جنتان ) وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي ؟ الثالثة : لما ذكر الخوف ذكر المقام ، وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال : (
إنما يخشى الله ) وقال : (
لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ الحشر : 21 ] وقال عليه السلام :
خشية الله رأس كل حكمة لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه . وفي مقام ربه قولان : أحدهما : مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه ، وهو مقام عبادته كما يقال : هذا معبد الله وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد الله العبد فيه . والثاني : مقام ربه الموضع الذي فيه الله قائم على عباده من قوله تعالى : (
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) [ الرعد : 33 ] أي حافظ ومطلع أخذا من القائم على الشيء حقيقة الحافظ له فلا يغيب عنه ، وقيل : مقام مقحم يقال : فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلانا وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي ، لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي الله فالخاشي لو قيل له : افعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل ، لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم ، والخائف ربما كان يقدم على ملاذ نفسه لو رفع عنه القلم وكيف لا ، ويقال : خاصة الله من خشية الله في شغل شاغل عن الأكل والشرب واقفون بين يدي الله سابحون في مطالعة جماله غائصون في بحار جلاله ، وعلى الوجه الثاني قرب الخائف من الخاشي وبينهما فرق . الرابعة : في قوله : (
جنتان ) وهذه اللطيفة نبينها بعدما نذكر ما قيل في التثنية ، قال بعضهم : المراد جنة واحدة كما قيل في قوله : (
ألقيا في جهنم ) [ ق : 24 ] وتمسك بقول القائل :
ومهمهين سرت مرتين قطعته بالسهم لا السهمين
فقال : أراد مهمها واحدا بدليل توحيد الضمير في قطعته وهو باطل ، لأن قوله بالسهم يدل على أن المراد مهمهان ، وذلك لأنه لو كان مهمها واحدا لما كانوا في قطعته يقصدون جدلا ، بل يقصدون التعجب وهو إرادته قطع مهمهين بأهبة واحدة وسهم واحد وهو من العزم القوي ، وأما الضمير فهو عائد إلى مفهوم تقديره قطعت كليهما وهو لفظ مقصور معناه التثنية ولفظه للواحد ، يقال : كلاهما معلوم ومجهول ، قال تعالى : (
كلتا الجنتين آتت أكلها ) [ الكهف : 33 ] فوحد اللفظ ولا حاجة ههنا إلى التعسف ، ولا مانع من أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة ، وكيف وقد قال بعد : (
ذواتا أفنان ) وقال فيهما . والثاني وهو الصحيح أنهما جنتان وفيه وجوه :
أحدها : أنهما جنة للجن وجنة للإنس لأن المراد هذان النوعان .
وثانيهما : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي لأن التكليف بهذين النوعين .
وثالثها : جنة هي جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء ، ويحتمل أن يقال : جنتان جنة جسمية والأخرى روحية ، فالجسمية في نعيم والروحية في روح فكان كما قال تعالى : (
فروح وريحان وجنة نعيم )
[ ص: 109 ] [ الواقعة : 89 ] وذلك لأن الخائف من المقربين ،
والمقرب في روح وريحان وجنة نعيم .
وأما اللطيفة : فنقول : لما قال تعالى في حق المجرم إنه يطوف بين نار وبين حميم آن ، وهما نوعان ذكر لغيره وهو الخائف جنتين في مقابلة ما ذكر في حق المجرم ، لكنه ذكر هناك أنهم يطوفون فيفارقون عذابا ويقعون في الآخر ، ولم يقل ههنا : يطوفون بين الجنتين بل جعلهم الله تعالى ملوكا وهم فيها
يطاف عليهم ولا يطاف بهم احتراما لهم وإكراما في حقهم ، وقد ذكرنا في قوله تعالى : (
مثل الجنة التي وعد المتقون ) [ محمد : 15 ] وقوله : (
إن المتقين في جنات ) [ الحجر : 45 ] أنه تعالى ذكر الجنة والجنات ، فهي لاتصال أشجارها ومساكنها وعدم وقوع الفاصل بينهما كمهامه وقفار صارت كجنة واحدة ، ولسعتها وتنوع أشجارها وكثرة مساكنها كأنها جنات ، ولاشتمالها على ما تلتذ به الروح والجسم كأنها جنتان ، فالكل عائد إلى صفة مدح .