(
فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
وأما قوله تعالى : (
فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فهو كقوله تعالى : (
فيهما من كل فاكهة زوجان ) وذلك لأن
الفاكهة أرضية نحو البطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات ، وشجرية نحو النخل وغيره من الشجريات فقال : (
مدهامتان ) بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية وفيهما أيضا الفواكه الشجرية ، وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب لأنهما متقابلان ، فأحدهما حلو والآخر غير حلو . وكذلك أحدهما حار والآخر بارد ، وأحدهما فاكهة وغذاء ، والآخر فاكهة ، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة ، وأحدهما أشجاره في غاية الطول والآخر أشجاره بالضد ، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن ، والآخر بالعكس ، فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما ، كما قال :
[ ص: 118 ] (
رب المشرقين ورب المغربين ) [ الرحمن : 17 ] وقدمنا ذلك .
ثم قال تعالى : (
فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) أي في باطنهن الخير وفي ظاهرهن الحسن والخيرات جمع خيرة . وقد بينا أن في قوله تعالى : (
قاصرات الطرف ) إلى أن قال : (
كأنهن ) إشارة إلى كونهن حسانا .
وقوله تعالى : (
حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
إشارة إلى عظمتهن فإنهن ما قصرن حجرا عليهن ، وإنما ذلك إشارة إلى ضرب الخيام لهن وإدلاء الستر عليهن ، والخيمة مبيت الرجل كالبيت من الخشب ، حتى أن العرب تسمي البيت من الشعر خيمة لأنه معد للإقامة ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : (
مقصورات في الخيام ) إشارة إلى معنى في غاية اللطف ، وهو أن
المؤمن في الجنة لا يحتاج إلى التحرك لشيء وإنما الأشياء تتحرك إليه فالمأكول والمشروب يصل إليه من غير حركة منه ، ويطاف عليهم بما يشتهونه فالحور يكن في بيوت ، وعند الانتقال إلى المؤمنين في وقت إرادتهم تسير بهن للارتحال إلى المؤمنين خيام ، وللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام إلى القصور ، وقوله تعالى : (
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) قد سبق تفسيره .
ثم قال تعالى : (
متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في تأخير ذكر اتكائهم عن ذكر نسائهم في هذا الموضع مع أنه تعالى قدم ذكر اتكائهم على ذكر نسائهم في الجنتين المتقدمتين حيث قال : (
متكئين على فرش ) [ الرحمن : 54 ] ثم قال : (
قاصرات الطرف ) وقال ههنا : (
فيهن خيرات حسان ) ثم قال : (
متكئين ) ؟ والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن
أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم منعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستفيض وعند قضاء وطره يستعمل الاغتسال والانتشار في الأرض للكسب ، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويريح قلبه من التعب قبل قضاء الوطر فيكون التعب لازما قبل قضاء الوطر أو بعده فالله تعالى قال في بيان أهل الجنة : متكئين قبل الاجتماع بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك ، ليعلم أنهم دائما على السكون فلا تعب لهم لا قبل الاجتماع ولا بعد الاجتماع . وثانيهما : هو أنا بينا في الوجهين المتقدمين أن الجنتين المتقدمتين لأهل الجنة الذين جاهدوا والمتأخرين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ، فهم فيهما وأهلهم في الخيام منتظرات قدوم أزواجهن ، فإذا دخل المؤمن جنته التي هي سكناه يتكئ على الفرش وتنتقل إليه أزواجه الحسان ، فكونهن في الجنتين المتقدمتين بعد اتكائهم على الفرش ، وأما كونهم في الجنتين المتأخرتين فذلك حاصل في يومنا ، واتكاء المؤمن غير حاصل في يومنا ، فقد ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك . و (
متكئين ) حال والعامل فيه ما دل عليه قوله : (
لم يطمثهن إنس قبلهم ) وذلك في قوة الاستثناء كأنه قال : لم يطمثهن إلا المؤمنون فإنهم يطمثوهن متكئين ، وما ذكرنا من قبل في قوله تعالى : (
متكئين على فرش ) يقال هنا .
المسألة الثانية : الرفرف إما أن يكون أصله من رف الزرع إذا بلغ من نضارته فيكون مناسبا لقوله تعالى : (
مدهامتان ) ويكون التقدير أنهم متكئون على الرياض والثياب العبقرية ، وإما أن يكون من رفرفة الطائر ،
[ ص: 119 ] وهي حومه في الهواء حول ما يريد النزول عليه فيكون المعنى أنهم على بسط مرفوعة كما قال تعالى : (
وفرش مرفوعة ) [ الواقعة : 34 ] وهذا يدل على أن قوله تعالى : (
ومن دونهما جنتان ) أنهما دونهما في المكان حيث رفعت فرشهم ، وقوله تعالى : (
خضر ) صيغة جمع فالرفرف يكون جمعا لكونه اسم جنس ويكون واحده رفرفة كحنظلة ، والجمع في متكئين يدل عليه فإنه لما قال : (
متكئين ) دل على أنهم على رفارف .
المسألة الثالثة : ما الفرق بين الفرش والرفرف حيث لم يقل : رفارف اكتفاء بما يدل عليه قوله : (
متكئين ) وقال : (
فرش ) ولم يكتف بما يدل عليه ذلك ؟ نقول : جمع الرباعي أثقل من جمع الثلاثي ، ولهذا لم يجئ للجمع في الرباعي إلا مثال واحد وأمثلة الجمع في الثلاثي كثيرة وقد قرئ : " على رفارف خضر " ، و " رفارف خضار " و " عباقر " .
المسألة الرابعة : إذا قلنا : إن الرفرف هي البسط فما الفائدة في الخضر حيث وصف تعالى
ثياب الجنة بكونها خضرا قال تعالى : (
ثياب سندس خضر ) [ الإنسان : 21 ] ؟ نقول : ميل الناس إلى اللون الأخضر في الدنيا أكثر ، وسبب الميل إليه هو أن الألوان التي يظن أنها أصول الألوان سبعة وهي الشفاف وهو الذي لا يمنع نفوذ البصر فيه ولا يحجب ما وراءه كالزجاج والماء الصافي وغيرهما ثم الأبيض بعده ثم الأصفر ثم الأحمر ثم الأخضر ثم الأزرق ثم الأسود ، والأظهر أن الألوان الأصلية ثلاثة الأبيض والأسود وبينهما غاية الخلاف والأحمر متوسط بين الأبيض والأسود ، فإن الدم خلق على اللون المتوسط ، فإن لم تكن الصحة على ما ينبغي فإن كان لفرط البرودة فيه كان أبيض وإن كان لفرط الحرارة فيه كان أسود لكن هذه الثلاثة يحصل منها الألوان الأخر ، فالأبيض إذا امتزج بالأحمر حصل الأصفر يدل عليه مزج اللبن الأبيض بالدم وغيره من الأشياء الحمر ، وإذا امتزج الأبيض بالأسود حصل اللون الأزرق يدل عليه خلط الجص المدقوق بالفحم وإذا امتزج الأحمر بالأسود حصل الأزرق أيضا لكنه إلى السواد أميل ، وإذا امتزج الأصفر بالأزرق حصل الأخضر من الأصفر والأزرق وقد علم أن الأصفر من الأبيض والأحمر والأزرق من الأبيض والأسود والأحمر والأسود فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأصلية فيكون ميل الإنسان إليه لكونه مشتملا على الألوان الأصلية وهذا بعيد جدا ، والأقرب أن الأبيض يفرق البصر ولهذا لا يقدر الإنسان على إدامة النظر في الأرض عند كونها مستورة بالثلج ، وإنه يورث الجهر والنظر إلى الأشياء السود يجمع البصر ولهذا كره الإنسان النظر إليه وإلى الأشياء الحمر كالدم ، والأخضر لما اجتمع فيه الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض ، وحصل اللون الممتزج من الأشياء التي في بدن الإنسان وهي الأحمر والأبيض والأصفر والأسود ، ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر ذكر الله تعالى في الآخرة ما هو على مقتضى طبعه في الدنيا .
المسألة الخامسة : العبقري منسوب إلى عبقر وهو عند العرب موضع من مواضع الجن فالثياب المعمولة عملا جيدا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها كأنها ليست من عمل الإنس ، ويستعمل في غير الثياب أيضا حتى يقال للرجل الذي يعمل عملا عجيبا هو عبقري أي من ذلك البلد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المنام الذي رآه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013767فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه واكتفى بذكر اسم الجنس عن الجمع ووصفه بما توصف به الجموع فقال " حسان " ، وذلك لما بينا أن جمع الرباعي يستثقل بعض الاستثقال ، وأما من قرأ : " عباقري " فقد جعل اسم ذلك الموضع عباقر فإن زعم أنه جمعه فقد وهم ، وإن جمع العبقري ثم نسب فقد التزم تكلفا خلاف ما كلف
[ ص: 120 ] الأدباء التزامه فإنهم في الجمع إذا نسبوا ردوه إلى الواحد وهذا القارئ تكلف في الواحد ورده إلى الجمع ثم نسبه ؛ لأن عند العرب ليس في الوجود بلاد كلها عبقر حتى تجمع ، ويقال : عباقر ، فهذا تكلف الجمع فيما لا جمع له ثم نسب إلى ذلك الجمع ، والأدباء تكره الجمع فيما ينسب لئلا يجمعوا بين الجمع والنسبة .