(
وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) .
[ ص: 125 ] ثم قال تعالى :
(
وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) أي في ذلك اليوم أنتم أزواج ثلاثة أصناف ، وفسرها بعدها بقوله : (
فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفاء تدل على التفسير ، وبيان ما ورد على التقسيم كأنه قال : أزواجا ثلاثة :
أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة إلخ ، ثم بين حال كل قوم ، فقال : (
ما أصحاب الميمنة ) فترك التقسيم أولا واكتفى بما يدل عليه ، فإنه ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها ، وسبق قوله تعالى : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) يغني عن تعديد الأقسام ، ثم أعاد كل واحدة لبيان حالها .
المسألة الثانية : (
فأصحاب الميمنة ) هم أصحاب الجنة ، وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم ، وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى ، كما قال تعالى : (
نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) [ التحريم : 8 ] وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير ، والعرب تتفاءل بالسانح ، و [ هو ] الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي ، وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره ، حتى أن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى ، ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين ، أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين ، إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه ، ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر ، لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحا غير
قدرة الله وإرادته لا يقدرون عليه ، فإن كان بعضهم يدعي كياسة وذكاء يقول : إن الكبد في الجانب الأيمن ، وبها قوة التغذية ، والطحال في الجانب الأيسر ، وليس فيه قوة ظاهرة النفع فصار الجانب الأيمن قويا لمكان الكبد على اليمين ؟ فنقول : هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال ، وتخصيص الله اليمين بجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله ، فضلوا اليمين على الشمال ، وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر ، وقيل لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين ، ووضعوا له لفظا على وزن العزيز ، فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير ، وما لا يتغير كالطويل والقصير ، وقيل له : اليمين ، وهو يدل على القوة ، ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن ، وهو الفعال ، فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى الوزن مع البناء على الكسر ، فيقال : يا فجار يا فساق يا خباث ، وقيل : اليمين اليسار ، ثم بعد ذلك استعمل في اليمين ، وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان ، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا : ملعبة .
المسألة الثالثة :
جعل الله الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة ، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة : يمينه وشماله ، وخلفه وقدامه ، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام ، ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون ، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال ، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن ، وهم المقربون بين يدي الله ، يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير
[ ص: 126 ] ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين ، ثم إنه تعالى لم يقل : في مقابلتهم قوما يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال ، لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم ، وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية ، وهو كقوله تعالى : (
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) [ فاطر : 32 ] ولم يقل : منهم متخلف عن الكل .
المسألة الرابعة : ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين ، والانتقال إلى أصحاب الشمال ، ثم إلى السابقين ، مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب ؟ ( والجواب ) : أن نقول : ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعا عن المعصية ، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يحزنون بالعذاب ، فلما ذكر تعالى : (
إذا وقعت الواقعة ) وكان فيه من التخويف ما لا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر ، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب ، فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ، ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من الله ، فإن السابق يناله ما يناله بجذب ، وإليه الإشارة بقوله : جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة .
المسألة الخامسة : ما معنى قوله : (
ما أصحاب الميمنة ) ؟ نقول : هو ضرب من البلاغة ، وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره : أخبرك بما جرى علي ، ثم يقول هناك هو مجيبا لنفسه لا أخاف أن يحزنك ، وكما يقول القائل : من يعرف فلانا فيكون أبلغ من أن يصفه ، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول : هذا نهاية ما هو عليه ، فإذا قال : من يعرف فلانا بفرض السامع من نفسه شيئا ، ثم يقول فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته ، وأنبه مما علمت منه .
المسألة السادسة : ما إعرابه ومنه يعرف معناه ؟ نقول : (
فأصحاب الميمنة ) مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه ، وقوله : (
ما أصحاب الميمنة ) جملة استفهامية على معنى التعجب ، كما تقول لمدعي العلم : ما معنى كذا مستفهما ممتحنا زاعما أنه لا يعرف الجواب ، حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته ؛ لأن كلامك مفهوم كأنك تقول : إنك لا تعرف الجواب ، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبر ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلا ثم لم يسكت ، وقال ذلك ممتحنا زاعما أنك لا تعرف كنهه ، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر ، كما أن قائلا : إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيدا وصل ، وقال : إن زيدا ثم قبل قوله : جاء وقع بصره على زيد ورآه جالسا عنده يسكت ولا يقول جاء ؛ لخروج الكلام عن الفائدة ، وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر ؛ لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال : من جاء فإنه إن قال : زيد يكون جوابا وكثيرا ما نقول : زيد ولا نقول : جاء ، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل : الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول : ماذا أقول عنه . إذا علم هذا فنقول لما قال : (
فأصحاب الميمنة ) كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه : إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال : (
ما أصحاب الميمنة ) ممتحنا زاعما أنه لا يفهم ليكون
[ ص: 127 ] ذلك دليلا على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته ، وهذا وجه بليغ ، وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال : معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال : وأصحاب الميمنة ما هم ؟ على سبيل الاستفهام ، غير أنه أقام المظهر مقام المضمر ، وقال : (
فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ) والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهرا مرتين ، كذلك القول في قوله تعالى : (
وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) وكذلك في قوله : (
الحاقة ما الحاقة ) وفي قوله : (
القارعة ما القارعة ) .
المسألة السابعة : ما الحكمة في اختيار لفظ (
المشأمة ) في مقابلة (
الميمنة ) ، مع أنه قال في بيان أحوالهم : (
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) ؟ نقول : اليمين وضع للجانب المعروف أولا ، ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظا في مواضع وقالوا : هذا ميمون وقالوا : أيمن به ووضعوا للجانب المقابل له اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، فصار في مقابلة اليمين كيفما يدور فيقال : في مقابلة اليمنى اليسرى ، وفي مقابلة الأيمن الأيسر ، وفي مقابلة الميمنة الميسرة ، ولا تستعمل الشمال كما تستعمل اليمين ، فلا يقال : الأشمل ولا المشملة ، وتستعمل المشأمة كما تستعمل الميمنة ، فلا يقال : في مقابلة اليمين لفظ من باب الشؤم ، وأما الشآم فليس في مقابلة اليمين بل في مقابلة يمان ، إذا علم هذا فنقول : بعدما قالوا باليمين لم يتركوه ، واقتصروا على استعمال لفظ اليمين في الجانب المعروف من الآدمي ، ولفظ الشمال في مقابلته ، وحدث لهم لفظان آخران فيه : أحدهما : الشمال وذلك لأنهم نظروا إلى الكواكب من السماء وجعلوا ممرها وجه الإنسان وجعلوا السماء جانبين وجعلوا أحدهما أقوى كما رأوا في الإنسان ، فسموا الأقوى بالجنوب لقوة الجانب كما يقال : غضوب ورءوف ، ثم رأوا في مقابلة الجنوب جانبا آخر شمل ذلك الجانب عمارة العالم فسموه شمالا ( واللفظ الآخر ) : المشأمة والأشأم في مقابلة الميمنة والأيمن ، وذلك لأنهم لما أخذوا من اليمين اليمن وغيره للتفاؤل وضعوا الشؤم في مقابلته لا في أعضائهم وجوانبهم تكرها لجعل جانب من جوانب نفسه شؤما ، ولما وضعوا ذلك واستمر الأمر عليه نقلوا اليمين من الجانب إلى غيره ، فالله تعالى ذكر الكفار بلفظين مختلفين فقال : (
وأصحاب المشأمة ) (
وأصحاب الشمال ) وترك لفظ الميسرة واليسار الدال على هون الأمر ، فقال ههنا : (
وأصحاب المشأمة ) بأفظع الاسمين ، ولهذا قالوا في العساكر : الميمنة والميسرة اجتنابا من لفظ الشؤم .