(
ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) .
ثم قال تعالى : (
ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) وهذا خبر بعد خبر ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرت أن قوله : (
والسابقون السابقون ) جملة ، وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم ، فكيف جاء خبر بعده ؟ نقول : ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر ، كما أن واحدا يقول : زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع ، مع أنه قال : لا يخفى ؛ لأن ذلك كان لبيان كونه ليس من الغرباء كذلك ههنا قال : (
والسابقون السابقون ) لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم .
المسألة الثانية : (
الأولين ) من هم ؟ نقول : المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وإنما قال : (
ثلة ) والثلة
[ ص: 130 ] الجماعة العظيمة ؛ لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا قيل : إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم ، فنزل بعده : (
ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) وهذا في غاية الضعف من وجوه :
أحدها : أن عدد أمة
محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان ، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة ، فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين ، وما هذا إلا خلف غير جائز .
وثانيها : أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد .
ثالثها : ما ورد بعدها لا يرفع هذا ؛ لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر ؛ لأن
أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أمورا لم تعف عن غيرهم ،
وجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين ، وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة
محمد صلى الله عليه وسلم فهم في غاية القلة وهم السابقون .
ورابعها : هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية ؛ لأنه تعالى لما قال : (
ثلة من الأولين ) دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء ، ولا نبي بعد
محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا جعل قليلا من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة ، يكون ذلك إنعاما في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام :
علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل . الوجه الثاني : المراد منه : (
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) [ التوبة : 100 ] فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا ، لقوله تعالى : (
لا يستوي منكم من أنفق ) [ الحديد : 10 ] الآية . (
وقليل من الآخرين ) الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وعلى هذا فقوله : (
وكنتم أزواجا ثلاثة ) يكون خطابا مع الموجودين وقت التنزيل ، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا عليه السلام ، وهذا ظاهر فإن الخطاب لا يتعلق إلا بالموجودين من حيث اللفظ ، ويدخل فيه غيرهم بالدليل . الوجه الثالث : (
ثلة من الأولين ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنفسهم (
وقليل من الآخرين ) الذين قال الله تعالى فيهم : (
واتبعتهم ذريتهم ) فالمؤمنون وذرياتهم إن كانوا من أصحاب اليمين فهم في الكثرة سواء ؛ لأن كل صبي مات وأحد أبويه مؤمن فهو من أصحاب اليمين ، وأما إن كانوا من المؤمنين السابقين ، فقلما يدرك ولدهم درجة السابقين وكثيرا ما يكون ولد المؤمن أحسن حالا من الأب لتقصير في أبيه ومعصية لم توجد في الابن الصغير وعلى هذا فقوله : (
الآخرين ) المراد منه الآخرون التابعون من الصغار .