(
وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ) .
ثم قال تعالى : (
وفرش مرفوعة ) وقد ذكرنا معنى الفرش ، ونذكر وجها آخر فيها إن شاء الله تعالى ، وأما المرفوعة ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : مرفوعة القدر يقال : ثوب رفيع أي عزيز مرتفع القدر والثمن ويدل عليه قوله تعالى : (
على فرش بطائنها ) [ الرحمن : 54 ] .
وثانيها : مرفوعة بعضها فوق بعض .
ثالثها : مرفوعة فوق السرير .
ثم قال تعالى : (
إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ) وفي الإنشاء مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في : (
أنشأناهن ) عائد إلى من ؟ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى ( حور عين ) وهو بعيد لبعدهن ووقوعهن في قصة أخرى .
ثانيها : أن المراد من الفرش النساء والضمير عائد إليهن لقوله تعالى : (
هن لباس لكم ) [ البقرة : 187 ] ، ويقال للجارية صارت فراشا وإذا صارت فراشا رفع قدرها بالنسبة إلى جارية لم تصر فراشا ، وهو أقرب من الأول لكن يبعد ظاهرا ؛ لأن وصفها بالمرفوعة ينبئ عن خلاف ذلك .
وثالثها : أنه عائد إلى معلوم دل عليه فرش ؛ لأنه قد علم في الدنيا وفي مواضع من ذكر الآخرة ، أن في الفرش حظايا تقديره : وفي فرش مرفوعة حظايا منشآت ، وهو مثل ما ذكر في قوله تعالى : (
قاصرات الطرف ) [ الصافات : 48 ] و (
مقصورات ) [ الرحمن : 72 ] فهو تعالى أقام الصفة مقام الموصوف ولم يذكر
نساء الآخرة بلفظ حقيقي أصلا وإنما عرفهن بأوصافهن ولباسهن إشارة إلى صونهن وتخدرهن ، وقوله تعالى : (
إنا أنشأناهن ) يحتمل أن يكون المراد الحور فيكون المراد الإنشاء الذي هو الابتداء ، ويحتمل أن يكون المراد بنات آدم فيكون الإنشاء بمعنى إحياء الإعادة ، وقوله تعالى : (
أبكارا ) يدل على الثاني ؛ لأن الإنشاء لو كان بمعنى الابتداء لعلم من كونهن أبكارا من غير حاجة إلى بيان ولما كان المراد إحياء بنات آدم قال : (
أبكارا ) أي نجعلهن أبكارا وإن متن ثيبات ، فإن قيل : فما الفائدة على الوجه الأول ؟ نقول : الجواب من وجهين :
الأول : أن الوصف بعدها لا يكون من غيرها إذا كن أزواجهم بين الفائدة ؛ لأن البكر في الدنيا لا تكون عارفة بلذة الزوج فلا ترضى بأن تتزوج من رجل لا تعرفه وتختار التزويج بأقرانها ومعارفها ، لكن أهل الجنة إذا لم يكن من جنس أبناء آدم وتكون الواحدة منهن بكرا لم تر زوجا ثم تزوجت بغير جنسها فربما يتوهم منها سوء عشرة فقال : (
أبكارا ) فلا يوجد فيهن ما يوجد في أبكار الدنيا .
الثاني : المراد " أبكارا " بكارة تخالف بكارة الدنيا ، فإن البكارة لا تعود إلا على بعد . وقوله تعالى : (
أترابا ) يحتمل وجوها :
أحدها : مستويات في السن فلا تفضل إحداهن على الأخرى بصغر ولا كبر كلهن خلقن في زمان واحد ، ولا يلحقهن عجز ولا زمانة ولا تغير لون ، وعلى هذا إن كن من بنات آدم فاللفظ فيهن حقيقة ، وإن كن من غيرهن فمعناه ما كبرن ؛ سمين به لأن كلا منهن تمس وقت مس الأخرى لكن نسي الأصل ، وجعل عبارة عن ذلك كاللذة للمتساويين من العقلاء ، فأطلق على حور
[ ص: 146 ] الجنة أترابا .
ثانيها : أترابا متماثلات في النظر إليهن كالأتراب سواء وجدن في زمان أو في أزمنة ، والظاهر أنه في أزمنة ؛ لأن المؤمن إذا عمل عملا صالحا خلق له منهن ما شاء الله .
ثالثها : أترابا لأصحاب اليمين ، أي على سنهم ، وفيه إشارة إلى الاتفاق ؛ لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشاب يعيره .
المسألة الثانية : إن قيل ما الفائدة في قوله : (
فجعلناهن ) ؟ نقول : فائدته ظاهرة تتبين بالنظر إلى اللام في : (
لأصحاب اليمين ) فنقول : إن كانت اللام متعلقة بـ " أترابا " يكون معناه : (
أنشأناهن ) وهذا لا يجوز وإن كانت متعلقة بـ " أنشأناهن " يكون معناه أنشأناهن لأصحاب اليمين والإنشاء حال كونهن أبكارا وأترابا فلا يتعلق الإنشاء بالأبكار بحيث يكون كونهن أبكارا بالإنشاء ؛ لأن الفعل لا يؤثر في الحال تأثيرا واجبا ، فنقول : صرفه للإنشاء لا يدل على أن الإنشاء كان بفعل فيكون الإنعام عليهم بمجرد إنشائهن لأصحاب اليمين : (
فجعلناهن أبكارا ) ليكون ترتيب المسبب على السبب فاقتضى ذلك كونهن أبكارا ، وأما إن كان الإنشاء أولا من غير مباشرة للأزواج ما كان يقتضي جعلهن أبكارا فالفاء لترتيب المقتضى على المقتضي .