(
إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) .
ثم قال تعالى : (
إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) وفيه مسائل :
[ ص: 166 ] المسألة الأولى : الضمير في قوله تعالى : (
إنه ) عائد إلى ماذا ؟ فنقول : فيه وجهان :
أحدهما : إلى معلوم وهو
الكلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان معروفا عند الكل ، وكان الكفار يقولون : إنه شعر وإنه سحر ، فقال تعالى ردا عليهم : (
إنه لقرآن ) عائد إلى مذكور وهو جميع ما سبق في سورة الواقعة من التوحيد ، والحشر ، والدلائل المذكورة عليهما ، والقسم الذي قال فيه : (
وإنه لقسم ) وذلك لأنهم قالوا : هذا كله كلام
محمد ومخترع من عنده ، فقال : (
إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ) .
المسألة الثانية : القرآن مصدر أو اسم غير مصدر ؟ فنقول : فيه وجهان :
أحدهما : مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ومثله في قوله تعالى : (
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) [ الرعد : 31 ] وهذا كما يقال في الجسم العظيم : انظر إلى قدرة الله تعالى أي مقدوره وهو كما في قوله تعالى : (
هذا خلق الله فأروني ) [ لقمان : 11 ] وعلى هذا سنبين فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزكاة : يعطي شيئا أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو يعطي شيئا دونه ، ويعطي الجبران أيضا ، حيث قال : الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له هو كالقرآن بمعنى المقروء ، ويجوز أن يقال لما أخذ جابر أو مجبور أو يقال : هو اسم لما يجبر به كالقربان .
المسألة الثالثة : إذا كان هذا الكلام للرد على المشركين فهم ما كانوا ينكرون كونه مقروءا فما الفائدة في قوله : (
إنه لقرآن ) ؟ نقول فيه وجهان :
أحدهما : أنه إخبار عن الكل وهو قوله : (
لقرآن كريم ) فهم كانوا ينكرون كونه قرآنا كريما ، وهم ما كانوا يقرون به . وثانيهما :
وهو أحسن من الأول ، أنهم قالوا : هو مخترع من عنده وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنه مسموع سمعته وتلوته عليكم فما كان القرآن عندهم مقروءا ، وما كانوا يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، وفرق بين القراءة والإنشاء ، فلما قال : (
إنه لقرآن ) أثبت كونه مقروءا على النبي صلى الله عليه وسلم ليقرأ ويتلى فقال تعالى : (
إنه لقرآن ) سماه قرآنا لكثرة ما قرئ ، ويقرأ إلى الأبد بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة .
المسألة الرابعة : قوله : (
كريم ) فيه لطيفة ؟ وهي أن الكلام إذا قرئ كثيرا يهون في الأعين والآذان ، ولهذا ترى من قال شيئا في مجلس الملوك لا يذكره ثانيا ، ولو قيل فيه يقال لقائله لم تكرر هذا ، ثم إنه تعالى لما قال : (
إنه لقرآن ) أي مقروء ، قرئ ويقرأ ، قال : (
كريم ) أي لا يهون بكثرة التلاوة ويبقى أبد الدهر كالكلام الغض والحديث الطري ، ومن هنا يقع أن وصف القرآن بالحديث مع أنه قديم يستمد من هذا مددا فهو قديم يسمعه السامعون كأنه كلام الساعة ، وما قرع سمع الجماعة ؛ لأن الملائكة الذين علموه قبل النبي بألوف من السنين إذا سمعوه من أحدنا يتلذذون به التذاذ السامع بكلام جديد لم يذكر له من قبل ، والكريم اسم جامع لصفات المدح ، قيل : الكريم هو الذي كان طاهر الأصل ظاهر الفضل ، حتى إن من أصله غير زكي لا يقال له كريم مطلقا ، بل يقال له : كريم في نفسه ، ومن يكون زكي الأصل غير زكي النفس لا يقال له : كريم إلا مع تقييد ، فيقال : هو كريم الأصل لكنه خسيس في نفسه ، ثم إن السخي المجرد هو الذي يكثر عطاؤه للناس ، أو يسهل عطاؤه ويسمى كريما ، وإن لم يكن له فضل آخر لا على الحقيقة ولكن ذلك لسبب ، وهو أن الناس يحبون من يعطيهم ، ويفرحون بمن يعطي أكثر مما يفرحون بغيره ، فإذا رأوا زاهدا أو عالما لا يسمونه كريما ، ويؤيد هذا أنهم إذا رأوا واحدا لا يطلب منهم شيئا يسمونه كريم النفس لمجرد تركه الاستعطاء لما أن الأخذ منهم صعب عليهم وهذا كله في العادة الرديئة ، وأما في الأصل فيقال : الكريم هو
[ ص: 167 ] الذي استجمع فيه ما ينبغي من طهارة الأصل وظهور الفضل ، ويدل على هذا أن السخي في معاملته ينبغي أن لا يوجد منه ما يقال بسببه إنه لئيم ، فالقرآن أيضا كريم بمعنى طاهر الأصل ظاهر الفضل ، لفظه فصيح ، ومعناه صحيح لكن القرآن أيضا كريم على مفهوم العوام فإن كل من طلب منه شيئا أعطاه ، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه ، والحكيم يستمد منه ويحتج به ، والأديب يستفيد منه ويتقوى به ، والله تعالى
وصف القرآن بكونه كريما ، وبكونه عزيزا ، وبكونه حكيما ، فلكونه كريما كل من أقبل عليه نال منه ما يريده فإن كثيرا من الناس لا يفهم من العلوم شيئا وإذا اشتغل بالقرآن سهل عليه حفظه ، وقلما يرى شخص يحفظ كتابا يقرؤه بحيث لا يغير منه كلمة بكلمة ، ولا يبدل حرفا بحرف وجميع القراء يقرءون القرآن من غير توقف ولا تبديل ، ولكونه عزيزا أن كل من يعرض عنه لا يبقى معه منه شيء ، بخلاف سائر الكتب ، فإن من قرأ كتابا وحفظه ثم تركه يتعلق بقلبه معناه حتى ينقله صحيحا ، والقرآن من تركه لا يبقى معه منه شيء لعزته ولا يثبت عند من لا يلزمه بالحفظ ، ولكونه حكيما من اشتغل به وأقبل عليه بالقلب أغناه عن سائر العلوم . وقوله تعالى : (
في كتاب ) جعله شيئا مظروفا بكتاب فما ذلك ؟ نقول فيه وجهان :
أحدهما : المظروف : القرآن ، أي هو قرآن في كتاب ، كما يقال : فلان رجل كريم في بيته ، لا يشك السامع أن مراد القائل : أنه في الدار قاعد ولا يريد به أنه كريم إذا كان في الدار ، وغير كريم إذا كان خارجا ولا يشك أيضا أنه لا يريد به أنه كريم في بيته ، بل المراد أنه رجل كريم وهو في البيت ، فكذلك ههنا أن القرآن كريم وهو في كتاب ، أو المظروف كريم على معنى أنه كريم في كتاب ، كما يقال : فلان رجل كريم في نفسه ، فيفهم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلا مظروفا فإن القائل : لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو نائم ، وإنما أراد به أنه كريم كرمه في نفسه ، فكذلك قرآن كريم
فالقرآن كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار .
ثانيهما : المظروف هو مجموع قوله تعالى : (
لقرآن كريم ) أي هو كذا في كتاب كما يقال : (
وما أدراك ما عليون ) [ المطففين : 19 ] في كتاب الله تعالى ، والمراد حينئذ أنه في اللوح المحفوظ نعته مكتوب : (
إنه لقرآن كريم ) والكل صحيح ، والأول أبلغ في التعظيم بالمقروء السماوي .
المسألة الخامسة : ما المراد من الكتاب ؟ نقول فيه وجوه :
الأول : وهو الأصح أنه اللوح المحفوظ ويدل عليه قوله تعالى : (
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) [ البروج : 22 ] .
الثاني : الكتاب هو المصحف .
الثالث : كتاب من الكتب المنزلة فهو قرآن في التوراة والإنجيل وغيرهما ، فإن قيل : كيف سمي الكتاب كتابا والكتاب فعال ، وهو إذا كان للواحد فهو إما مصدر كالحساب والقيام وغيرهما ، أو اسم لما يكتب كاللباس واللثام وغيرهما ، فكيفما كان فالقرآن لا يكون في كتاب بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوبا في لوح أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، إنما يكون في القرطاس ، نقول : ما ذكرت من الموازين يدل على أن الكتاب ليس المكتوب ولا هو المكتوب فيه أو المكتوب عليه ، فإن اللثام ما يلثم به ، والصوان ما يصان فيه الثوب ، لكن اللوح لما لم يكن إلا الذي يكتب فيه صح تسميته كتابا .
المسألة السادسة : المكتوب هو المستور قال الله تعالى : (
كأمثال اللؤلؤ المكنون ) [ الواقعة : 23 ] ، قال : (
بيض مكنون ) [ الصافات : 49 ] فإن كان المراد من الكتاب اللوح فهو ليس بمستور وإنما الشيء فيه منشور ، وإن كان المراد هو المصحف فعدم كونه مكتوبا مستورا ، فكيف الجواب عنه ؟ فنقول : المكنون المحفوظ إذا كان غير عزيز يحفظ بالعين ، وهو ظاهر للناس فإذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى بالصون والحفظ بالعين بل يستر
[ ص: 168 ] عن العيون ، ثم كلما تزداد عزته يزداد ستره فتارة يكون مخزونا ثم يجعل مدفونا ، فالستر صار كاللازم للصون البالغ فقال : (
مكنون ) أي محفوظ غاية الحفظ ، فذكر اللام وأراد الملزوم وهو باب من الكلام الفصيح تقول مثلا : فلان كبريت أحمر ، أي قليل الوجود . والجواب الثاني : إن اللوح المحفوظ مستور عن العين لا يطلع عليه إلا ملائكة مخصوصون ، ولا ينظر إليه إلا قوم مطهرون ، وأما
القرآن فهو مكتوب مستور أبد الدهر عن أعين المبدلين ، مصون عن أيدي المحرفين ، فإن قيل : فما فائدة كونه (
في كتاب ) وكل مقروء في كتاب ؟ نقول : هو لتأكيد الرد على الكفار ؛ لأنهم كانوا يقولون : إنه مخترع من عنده مفترى ، فلما قال : مقروء عليه اندفع كلامهم ، ثم إنهم قالوا : إن كان مقروءا عليه فهو كلام الجن فقال : (
في كتاب ) أي لم ينزل به عليه الملك إلا بعدما أخذه من كتاب فهو ليس بكلام الملائكة فضلا أن يكون كلام الجن ، وأما إذا قلنا : إذا كان كريما فهو في كتاب ، ففائدته ظاهرة ، وأما فائدة كونه (
في كتاب مكنون ) فيكون ردا على من قال : إنه أساطير الأولين في كتب ظاهرة ، أي فلم لا يطالعها الكفار ، ولم لا يطلعون عليه لا بل هو (
في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ) ، فإذا تبين فيما ذكرنا أن وصفه بكونه قرآنا صار ردا على من قال : يذكره من عنده ، وقوله : (
في كتاب ) رد على من قال : يتلوه عليه الجن حيث اعترف بكونه مقروءا ونازع في شيء آخر ، وقوله : (
مكنون ) رد على من قال : إنه مقروء في كتاب لكنه من أساطير الأولين .
المسألة السابعة : (
لا يمسه ) الضمير عائد إلى الكتاب على الصحيح ، ويحتمل أن يقال : هو عائد إلى ما عاد إليه المضمر من قوله : (
إنه ) ومعناه :
لا يمس القرآن إلا المطهرون ، والصيغة إخبار ، لكن الخلاف في أنه هل هو بمعنى النهي ، كما أن قوله تعالى : (
والمطلقات يتربصن ) [ البقرة : 228 ] إخبار بمعنى الأمر ، فمن قال : المراد من الكتاب اللوح المحفوظ ، وهو الأصح على ما بينا ، قال : هو إخبار معنى كما هو إخبار لفظا ، إذا قلنا : إن المضمر في (
يمسه ) للكتاب ، ومن قال : المراد المصحف اختلف في قوله ، وفيه وجه ضعيف نقله ابن عطية أنه نهي لفظا ومعنى وجلبت إليه ضمة الهاء لا للإعراب ولا وجه له .
المسألة الثامنة : إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ ، فالصحيح أن الضمير في (
لا يمسه ) للكتاب ، فكيف يصح قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمة الله تعالى عليه : لا يجوز
مس المصحف للمحدث ، نقول : الظاهر أنه ما أخذه من صريح الآية ولعله أخذه من السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى
عمرو بن حزم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013772لا يمس القرآن من هو على غير طهر أو أخذه من الآية على طريق الاستنباط ، وقال : إن المس بطهر صفة من الصفات الدالة على التعظيم والمس بغير طهور نوع إهانة في المعنى ، وذلك لأن الأضداد ينبغي أن تقابل بالأضداد ، فالمس بالمطهر في مقابلة المس على غير طهر ، وترك المس خروج عن كل واحدة منهما فكذلك الإكرام في مقابلة الإهانة وهناك شيء لا إكرام ولا إهانة فنقول : إن من لا يمس المصحف لا يكون مكرما ولا مهينا وبترك المس خرج عن الضدين ففي المس على الطهر التعظيم ، وفي المس على الحدث الإهانة فلا تجوز وهو معنى دقيق يليق
nindex.php?page=showalam&ids=13790بالشافعي رحمه الله ومن يقرب منه في الدرجة .
ثم إن ههنا لطيفة فقهية لاحت لهذا الضعيف في حال تفكره في تفسير هذه الآية فأراد تقييدها هنا فإنها من فضل الله فيجب علي إكرامها بالتقييد بالكتاب ، وهي أن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله منع المحدث والجنب من مس المصحف وجعلهما غير مطهرين ثم
منع الجنب عن قراءة القرآن ولم يمنع المحدث وهو استنباط منه
[ ص: 169 ] من كلام الله تعالى ، وذلك ؛ لأن الله تعالى منعه عن المسجد بصريح قوله : (
ولا جنبا ) [ النساء : 43 ] فدل ذلك على أنه ليس أهلا للذكر ؛ لأنه لو كان أهلا للذكر لما منعه من دخول المسجد ؛ لأنه تعالى أذن لأهل الذكر في الدخول بقوله تعالى : (
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) [ النور : 36 ] الآية ، والمأذون في الذكر في المسجد مأذون في دخول المسجد ضرورة فلو كان الجنب أهلا للذكر لما كان ممنوعا عن دخول المسجد والمكث فيه وإنه ممنوع عنهما وعن أحدهما ، وأما المحدث فعلم أنه غير ممنوع عن دخول المسجد فإن من الصحابة من كان يدخل المسجد ، وجوز النبي صلى الله عليه وسلم
نوم القوم في المسجد وليس النوم حدثا إذ النوم الخاص يلزمه الحكم بالحدث على اختلاف بين الأئمة وما لم يكن ممنوعا من دخول المسجد لم يثبت كونه غير أهل للذكر فجاز له القراءة ، فإن قيل : وكان ينبغي أن لا يجوز
للجنب أن يسبح ويستغفر ؛ لأنه ذكر ، نقول : القرآن هو الذكر المطلق قال الله تعالى : (
وإنه لذكر لك ولقومك ) [ الزخرف : 44 ] وقال الله تعالى : (
والقرآن ذي الذكر ) [ ص : 1 ] وقوله : (
يذكر فيها اسمه ) [النور : 36] مع أنا نعلم أن المسجد يسمى مسجدا ، ومسجد القوم محل السجود ، والمراد منه الصلاة ، والذكر الواجب في الصلاة هو القرآن ، فالقرآن مفهوم من قوله : (
يذكر فيها اسمه ) ، ومن حيث المعقول هو أن غير القرآن ربما يذكر مريدا به معناه فيكون كلاما غير ذكر ، فإن من قال : أستغفر الله أخبر عن نفسه بأمر ، ومن قال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كذلك أخبر عن أمر كائن بخلاف من قال : (
قل هو الله أحد ) [ الإخلاص : 1 ] فإنه ليس بمتكلم به بل هو قائل له غير آمر لغيره بالقول ، فالقرآن هو الذكر الذي لا يكون إلا على قصد الذكر لا على قصد الكلام فهو المطلق وغيره قد يكون ذكرا ، وقد لا يكون ، فإن قيل : فإذا قال : (
ادخلوها بسلام ) [ الحجر : 46 ] وأراد الإخبار ينبغي أن لا يكون قرآنا وذكرا ، نقول : هو في نفسه قرآن ، ومن ذكره على قصد الإخبار ، وأراد الأمر والإذن في الدخول يخرج عن كونه قارئا للقرآن ، وإن كان لا يخرج عن كونه قرآنا ، ولهذا نقول نحن ببطلان صلاته ولو كان قارئا لما بطلت ، وهذا جواب فيه لطف ينبغي أن يتنبه له المطالع لهذا الكتاب ، وذلك من حيث إني فرقت بين أن يقال : ليس قول القائل : ادخلوها بسلام على قصد الإذن قرآنا ، وبين قوله : ليس القائل : ادخلوها بسلام على غير قصد بقارئ للقرآن ، وأما الجواب من حيث المعقول فهو أن العبادة على منافاة الشهوة ، والشهوة إما شهوة البطن ، وإما شهوة الفرج في أكثر الأمر ، فإن أحدا لا يخلو عنهما ، وإن لم يشته شيئا آخر من المأكول والمشروب والمنكوح ، لكن شهوة البطن قد لا تبقى شهوة بل تصير حاجة عند الجوع وضرورة عند الخوف ، ولهذا قال تعالى : (
ولحم طير مما يشتهون ) [ الواقعة : 21 ] أي لا يكون لحاجة ولا ضرورة بل لمجرد الشهوة ، وقد بيناه في هذه السورة وأما شهوة الفرج فلا تخرج عن كونها شهوة وإن خرجت تكون في محل الحاجة لا الضرورة ، فلا يعلم أن شهوة الفرج ليست شهوة محضة ، والعبادة فيها منضمة للشهوة ، فلم تخرج شهوة الفرج عن كونها عبادة بدنية قط ، بل حكم الشرع ببطلان الحج به ، وبطلان الصوم والصلاة ، وأما قضاء شهوة البطن فلما لم يكن شهوة مجردة بطل به الصلاة والصوم دون الحج ، وربما لم تبطل به الصلاة أيضا ، إذا ثبت هذا فنقول : خروج الخارج دليل قضاء الشهوة البطنية ، وخروج المني دليل قضاء الشهوة الفرجية ، فواجب بهما تطهير النفس ، لكن الظاهر والباطن متحاذيان ، فأمر الله تعالى بتطهير الظاهر عند الحدث والإنزال لموافقة الباطن ، والإنسان إذا كان له بصيرة وينظر في تطهير باطنه عند
الاغتسال للجنابة ، فإنه يجد خفة ورغبة في الصلاة والذكر وهنا تتمة لهذه اللطيفة : وهي أن قائلا لو قال : لو صح قولك للزم أن يجب الوضوء بالأكل كما يجب
[ ص: 170 ] بالحدث ؛ لأن الأكل قضاء الشهوة ، وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال ، لكونه دليل قضاء الشهوة ، وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج ، فكذلك الإحداث والأكل فنقول : ههنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة فنقول : الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة ، فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة ، وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان ، فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين : أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013773إنما الماء من الماء فإن الإنزال كالإحداث ، وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء ، كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل ، فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة ، فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر . وثانيهما : ما روي عنه صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013774الوضوء من أكل ما مسته النار " فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله ، وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان ، فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة ، ونعود إلى الجواب عن السؤال ونقول : إذا تبين هذا
nindex.php?page=showalam&ids=13790فالشافعي رضي الله عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة ، فلا تجامع العبادة الجنابة ، فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن ، والمحدث يجوز له أن يقرأ ؛ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة .
المسألة التاسعة : قوله : (
إلا المطهرون ) هم
الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال : لا يمسه إلا المتطهرون أو المطهرون ، بتشديد الطاء والهاء ، والقراءة المشهورة الصحيحة (
المطهرون ) من التطهير لا من الإطهار ، وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر ، وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول : هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة ، فإنهم كانوا يقولون : النبي صلى الله عليه وسلم كاهن ، فقال : لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث ، ولا يكونون محلا للإفساد والسفك ، فلا يفسدون ولا يسفكون ، وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه ، فيكون هذا ردا على القائلين : بكونه مفتريا ، وبكونه شاعرا ، وبكونه مجنونا بمس الجن ، وبكونه كاهنا ، وكل ذلك قولهم ، والكل رد عليه بما ذكر الله تعالى ههنا من أوصاف كتاب الله العزيز .
المسألة العاشرة : قوله : (
تنزيل من رب العالمين ) مصدر ، والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلا إنما هو منزل كما قال تعالى : (
نزل به الروح الأمين ) [ الشعراء : 193 ] نقول : ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما قلنا في قوله تعالى : (
هذا خلق الله ) فإن قيل : ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع ؟ فنقول : التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل ، لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر ، وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به ، فنقول هذا في الكلام ، فإن كلام الله أيضا وصف قائم بالله عندنا ، وإنما نقول : من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد ، فنقول في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور ، فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه ، فإذا قال : هذا قدرة الله تعالى كان له من العظمة ما لا يكون في قوله : هذا مقدور الله ؛ لأن عظمة الشيء بعظمة الله ، فإذا جعلت الشيء قائما بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم ، وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم بالله وهو المفعول به كان دونه ، فقال : (
تنزيل ) ولم يقل : منزل ، ثم إن ههنا بلاغة أخرى وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا ، كما في قوله : (
مدخل صدق )
[ ص: 171 ] [ الإسراء : 80 ] أي دخول صدق أو إدخال صدق وقال تعالى : (
كل ممزق ) [ سبأ : 7 ] أي تمزيق ، فالممزق بمعنى التمزيق ، كالمنزل بمعنى التنزيل ، وعلى العكس سواء ، وهذه البلاغة هي أن الفعل لا يرى ، والمفعول به يصير مرئيا ، والمرئي أقوى في العلم ، فيقال : مزقهم تمزيقا وهو فعل معلوم لكل أحد علما بينا يبلغ درجة الرؤية ويصير التمزق هنا كما صار الممزق ثابتا مرئيا ، والكلام يختلف بمواضع الكلام ، ويستخرج الموفق بتوفيق الله ، وقوله : (
من رب العالمين ) أيضا لتعظيم القرآن ؛ لأن الكلام يعظم بعظمة المتكلم ، ولهذا يقال لرسول الملك هذا كلام الملك أو كلامك وهذا كلام الملك الأعظم أو كلام الملك الذي دونه ، إذا كان الرسول رسول ملوك ، فيعظم الكلام بقدر عظمة المتكلم ، فإذا قال : (
من رب العالمين ) تبين منه عظمة لا عظمة مثلها وقد بينا تفسير العالم وما فيه من اللطائف ، وقوله : (
تنزيل ) رد على طائفة أخرى ، وهم الذين يقولون إنه في كتاب ، ولا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ، لكن الملك يأخذ ويعلم الناس من عنده ولا يكون من الله تعالى ، وذلك أن طائفة من
الروافض يقولون : إن
جبرائيل أنزل على
علي ، فنزل على
محمد ، فقال تعالى : هو من الله ليس باختيار الملك أيضا ، وعند هذا تبين الحق فعاد إلى توبيخ الكفار .