(
فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ) .
(
فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ) هذا وجه تعلقه معنى ، وأما تعلقه لفظا فنقول : لما قال : (
فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ) وكان فيها أن رجوع الحياة والنفس إلى البدن ليس تحت قدرتهم ولا رجوع لهم بعد الموت إلى الدنيا صار كأنه قال : أنتم بعد الموت دائمون في دار الإقامة ومجزيون ،
فالمجزي إن كان من المقربين فله الروح والريحان ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في معنى الروح وفيه وجوه :
الأول : هو الرحمة قال تعالى : (
ولا تيأسوا من روح الله )
[ ص: 175 ] [ يوسف : 87 ] أي من رحمة الله .
الثاني : الراحة .
الثالث : الفرح ، وأصل الروح السعة ، ومنه الروح لسعة ما بين الرجلين دون الفحج ، وقرئ : " فروح " بضم الراء بمعنى الرحمة .
المسألة الثانية : في الكلام إضمار تقديره : فله روح أفصحت الفاء عنه لكونه فاء الجزاء لربط الجملة بالشرط فعلم كونها جزاء ، وكذلك إذا كان أمرا أو نهيا أو ماضيا ؛ لأن الجزاء إذا كان مستقبلا يعلم كونه جزاء بالجزم الظاهر في السمع والخط ، وهذه الأشياء التي ذكرت لا تحتمل الجزم ، أما غير الأمر والنهي فظاهر ، وأما الأمر والنهي فلأن الجزم فيهما ليس لكونهما جزاءين فلا علامة للجزاء فيه ، فاختاروا الفاء فإنها لترتيب أمر على أمر ، والجزاء مرتب على الشرط .
المسألة الثالثة : في الريحان ، وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى : (
ذو العصف والريحان ) [ الرحمن : 12 ] ولكن ههنا فيه كلام ، فمنهم من قال : المراد ههنا ما هو المراد ثمة ، إما الورق وإما الزهر وإما النبات المعروف ، وعلى هذا فقد قيل : إن
أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه ، وقيل : إن المراد ههنا غير ذلك وهو الخلود ، وقيل : هو رضاء الله تعالى عنهم فإذا قلنا : الروح هو الرحمة فالآية كقوله تعالى : (
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) [ التوبة : 21 ] وأما : (
جنة نعيم ) فقد تقدم القول فيها عند تفسير السابقين في قوله : (
أولئك المقربون في جنات النعيم ) [ الواقعة : 11 ] وذكرنا فائدة التعريف هناك وفائدة التنكير ههنا .
المسألة الرابعة : ذكر في
حق المقربين أمورا ثلاثة ههنا وفي قوله تعالى : (
يبشرهم ربهم ) [ التوبة : 21 ] وذلك لأنهم أتوا بأمور ثلاثة وهي : عقيدة حقة وكلمة طيبة وأعمال حسنة ، فالقلب واللسان والجوارح كلها كانت مرتبة برحمة الله على عقيدته ، وكل من له عقيدة حقة يرحمه الله ويرزقه الله دائما وعلى الكلمة الطيبة وهي كلمة الشهادة ، وكل من قال : لا إله إلا الله فله رزق كريم والجنة له على أعماله الصالحة ، قال تعالى : (
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ) [ التوبة : 111 ] وقال : (
ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) [ النازعات : 40 ] فإن قيل : فعلى هذا من أتى بالعقيدة الحقة ، ولم يأت بالكلمة الطيبة ينبغي أن يكون من أهل الرحمة ولا يرحم الله إلا من قال : لا إله إلا الله ، نقول : من كانت عقيدته حقة ، لا بد وأن يأتي بالقول الطيب فإن لم يسمع لا يحكم به ؛ لأن العقيدة لا اطلاع لنا عليها فالقول دليل لنا ، وأما الله تعالى فهو عالم الأسرار ، ولهذا ورد في الأخبار أن من الناس من يدفن في مقابر الكفار ويحشر مع المؤمنين ، ومنهم من يدفن في مقابر المسلمين ويحشر مع الكفار لا يقال : إن
من لا يعمل الأعمال الصالحة لا تكون له الجنة على ما ذكرت ، لأنا نقول : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن عقيدته الحقة وكلمته الطيبة لا يتركانه بلا عمل ، فهذا أمر غير واقع وفرض غير جائز .
وثانيهما : أنا نقول من حيث الجزاء ، وأما
من قال : لا إله إلا الله فيدخل الجنة ، وإن لم يعمل عملا لا على وجه الجزاء بل بمحض فضل الله من غير جزاء ، وإن كان الجزاء أيضا من الفضل لكن من الفضل ما يكون كالصدقة المبتدأة ، ومن الفضل ما لا كما يعطي الملك الكريم آخر والمهدى إليه غير ملك لا يستحق هديته ولا رزقه .