صفحة جزء
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) ثم قال تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا أن رجلا من اليهود قال عند نزول هذه الآية ما استقرض إله محمد حتى افتقر ، فلطمه أبو بكر ، فشكا اليهودي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ما أردت بذلك ؟ فقال : ما ملكت نفسي أن لطمته فنزل قوله تعالى : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) [ آل عمران : 186 ] قال المحققون : اليهودي إنما قال ذلك على سبيل الاستهزاء ، لا لأن العاقل يعتقد أن الإله يفتقر ، وكذا القول في قولهم : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) .

المسألة الثانية : أنه تعالى أكد بهذه الآية ترغيب الناس في أن ينفقوا أموالهم في نصرة المسلمين وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين ، وسمى ذلك الإنفاق قرضا من حيث وعد به الجنة تشبيها بالقرض .

المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد من هذا الإنفاق ، فمنهم من قال : المراد الإنفاقات الواجبة ، ومنهم [ ص: 193 ] من قال : بل هو في التطوعات ، والأقرب دخول الكل فيه .

المسألة الرابعة : ذكروا في كون القرض حسنا وجوها :

أحدها : قال مقاتل : يعني طيبة بها نفسه .

وثانيها : قال الكلبي : يعني يتصدق بها لوجه الله .

وثالثها : قال بعض العلماء : القرض لا يكون حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة :

الأول : أن يكون من الحلال ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول ) .

والثاني : أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء ، قال الله تعالى : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) [ البقرة : 267 ] .

الثالث : أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة ، وهو المراد بقوله تعالى : ( وآتى المال على حبه ) [ البقرة : 177 ] ويقول : ( ويطعمون الطعام على حبه ) [ الإنسان : 8 ] على أحد التأويلات . وقال عليه الصلاة والسلام : " الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت : لفلان كذا ولفلان كذا " .

والرابع : أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها ؛ ولذلك خص الله تعالى أقواما بأخذها ، وهم أهل السهمان .

الخامس : أن تكتم الصدقة ما أمكنك ؛ لأنه تعالى قال : ( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) [ البقرة : 271 ] .

السادس : أن لا تتبعها منا ولا أذى ، قال تعالى : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) [ البقرة : 264 ] .

السابع : أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي ، كما قال : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ولأن المرائي مذموم بالاتفاق .

الثامن : أن تستحقر ما تعطي وإن كثر ؛ لأن ذلك قليل من الدنيا ، والدنيا كلها قليلة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : ( ولا تمنن تستكثر ) [ المدثر : 6 ] في أحد التأويلات .

التاسع : أن يكون من أحب أموالك إليك ، قال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] .

العاشر : أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير ، بل يكون الأمر بالعكس في نظرك ، فترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله بقوله : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] وترى نفسك تحت دين الفقير ، فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضا حسنا ، وهذه الآية مفسرة في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية