(
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض )
ثم قال تعالى : (
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) والمراد كأنه تعالى قال : لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه ، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة .
واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله : (
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) [ آل عمران : 133] ثم شرح ههنا كيفية تلك المسارعة ، فقال : (
سابقوا ) مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، وقوله : (
إلى مغفرة ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : لا شك أن المراد منه
المسارعة إلى ما يوجب المغفرة ، فقال قوم : المراد سابقوا إلى التوبة ، وقال آخرون : المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به ، فدخل فيه التوبة ، وهذا أصح ؛ لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات .
المسألة الثانية : احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية ، فقالوا : هذه الآية دلت على وجوب المسارعة ، فوجب أن يكون التراخي محظورا ، أما قوله تعالى : (
وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) وقال في آل عمران : (
وجنة عرضها السماوات والأرض ) ، فذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها . هذا قول
مقاتل .
وثانيها : قال :
عطاء [ عن ]
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة .
وثالثها : قال
السدي :
إن الله [ ص: 205 ] تعالى شبه عرض الجنة بعرض السماوات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها ، فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك .
ورابعها : أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم ، وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السماوات والأرض . وهذا قول
الزجاج .
وخامسها : وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن الجنان أربعة ، قال تعالى : (
ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46 ] وقال : (
ومن دونهما جنتان ) [ الرحمن : 62 ] فالمراد ههنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسماوات السبع والأرضين السبع .
ثم قال تعالى : (
أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن
الجنة مخلوقة ، وقالت
المعتزلة : هذه ( الآية ) لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين :
الأول : أن قوله تعالى : (
أكلها دائم ) [ الرعد : 35 ] يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى ، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى : (
كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] .
الثاني : أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة ، ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السماوات ، قالوا : فثبت بهذين الوجهين أنه لا بد من التأويل ، وذلك من وجهين :
الأول : أنه تعالى لما كان قادرا لا يصح المنع عليه ، وكان حكيما لا يصح الخلف في وعده ، ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة ، فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيها لما سيقع قطعا بالواقع ، وقد يقول المرء لصاحبه : " أعددت لك المكافأة " إذا عزم عليها ، وإن لم يوجدها .
والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى : (
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ) أي إذا كان يوم القيامة نادى .
( الجواب ) أن قوله : (
كل شيء هالك ) عام ، وقوله : (
أعدت للمتقين ) مع قوله : (
أكلها دائم ) خاص ، والخاص مقدم على العام ، وأما قوله ثانيا " الجنة مخلوقة في السماء السابعة " قلنا : إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة : "
سقفها عرش الرحمن " وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه ؟ أليس أن العرش أعظم المخلوقات مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة .