(
لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )
ثم قال تعالى : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سببا لآخره ، كما تقول : قمت لأضربك ، فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب ، وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع ، وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : "
من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب " وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب ، وعدم كل ما لم يقع واجب أيضا لأسباب أربعة :
أحدها : أن الله تعالى علم وقوعه ، فلو لم يقع انقلب العلم جهلا .
ثانيها : أن الله أراد وقوعه ، فلو لم يقع انقلبت
[ ص: 208 ] الإرادة تمنيا .
ثالثها : أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه ، فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزا .
رابعها : أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق ، فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذبا ، فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص ، ومن قدمها إلى الحدوث ، ولما كان ذلك ممتنعا علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع ، وحينئذ يزول الغم والحزن عند ظهور هذه الخواطر ، وهانت عليه المحن والمصائب ، وأما
المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة ، ولكنهم يوافقون في العلم والخير ، وإذا كان الجبر لازما في هاتين الصفتين ، فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع ، وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم ؛ وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية ، ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة ويمتنع وقوع ما يخالفها . وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئا من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي ، وإذا كان اتفاقيا لم يكن اختياريا ، فيكون الجبر لازما ، فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء ، سواء أقروا به أو أنكروه ، فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية ، قالت
المعتزلة : الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العبد متمكنا مختارا ، وذلك من وجوه :
الأول : أن قوله : (
لكي لا تأسوا على ما فاتكم ) يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة .
والثاني : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح ، وذلك خلاف قول المجبرة : إن الله تعالى أراد كل ذلك منهم .
والثالث : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : (
والله لا يحب كل مختال فخور ) وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء ، فهو خلاف قول المجبرة : إن كل واقع فهو مراد الله تعالى .
الرابع : أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله : (
لكي لا ) وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض ، وأقول : العاقل يتعجب جدا من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها .
المسألة الثانية : قال
أبو علي الفارسي : قرأ
أبو عمرو وحده : " بما أتاكم " قصرا ، وقرأ الباقون : " آتاكم " ممدودا ، حجة
أبي عمرو أن " أتاكم " معادل لقوله : (
فاتكم ) فكما أن الفعل للغائب في قوله : (
فاتكم ) كذلك يكون الفعل للآتي في قوله : (
بما آتاكم ) والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل ، وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوبا إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك ، ويكون فاعل الفعل في : (
آتاكم ) ضميرا عائدا إلى اسم الله سبحانه وتعالى ، والهاء محذوفة من الصلة ، تقديره بما آتاكموه .
المسألة الثالثة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : ليس المراد من قوله : (
لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) نفي الأسى والفرح على الإطلاق ، بل معناه : لا تحزنوا حزنا يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم ، ولا تفرحوا فرحا شديدا يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ودليل ذلك قوله تعالى : (
والله لا يحب كل مختال ) فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر ، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم ، وهذا كله معنى ما روى
عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا . واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد
أفعال العباد ، ( والجواب ) عنه أن كثيرا من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال : المحبة إرادة مخصوصة ، وهي إرادة الثواب ، فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة .