(
وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) .
ثم قال تعالى (
وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله ) وفيه وجهان :
أحدهما : ليس يضر التناجي بالمؤمنين شيئا .
والثاني :
الشيطان ليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله ، وقوله : (
إلا بإذن الله ) فقيل : بعلمه ، وقيل : بخلقه وتقديره للأمراض وأحوال القلب من الحزن والفرح ، وقيل : بأن يبين كيفية مناجاة الكفار حتى يزول الغم .
ثم قال : (
وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه .
قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سببا لزيادة المحبة والمودة . وقوله : (
تفسحوا في المجالس ) توسعوا فيه ، وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : افسح عني ، أي تنح ، ولا تتضاموا ، يقال : بلدة فسيحة ، ومفازة فسيحة ، ولك فيه فسحة ، أي سعة .
المسألة الثانية : قرأ
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=15854وداود بن أبي هند : تفاسحوا ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني : هذا لائق بالغرض ؛ لأنه إذا قيل : تفسحوا ، فمعناه ليكن هناك تفسح ، وأما التفاسح فتفاعل ، والمراد ههنا المفاعلة ، فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة . وقرئ " في المجلس " قال
الواحدي : والوجه التوحيد ؛ لأن المراد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو واحد ، ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة ، أي موضع جلوس .
[ ص: 234 ] المسألة الثالثة : ذكروا في الآية أقوالا :
الأول : أن المراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب منه ، وحرصا على استماع كلامه ، وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوها :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل بن حيان :
كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، وشق ذلك على الرسول ، فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان ، ثم يا فلان ، فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه ، وشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرفت الكراهية في وجوههم ، وطعن المنافقون في ذلك ، وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء ، إن قوما أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة .
الثاني : روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في
nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس بن الشماس ، وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه ، فوسعوا له حتى قرب ، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام ، ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلانا لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية ، وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد .
الثالث : أنهم كانوا يحبون القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه ، فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى ، فأمرهم الله تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه ، وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء ، وكان
أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح .
القول الثاني : وهو اختيار
الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال ؛ وهو كقوله : (
مقاعد للقتال ) [ آل عمران : 121 ] وكان الرجل يأتي الصف فيقول : تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة .
والقول الثالث : أن المراد جميع المجالس والمجامع ، قال القاضي : والأقرب أن المراد منه مجلس الرسول عليه السلام ؛ لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهودا ، والمعهود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول -صلى الله عليه وسلم -الذي يعظم التنافس عليه ، ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه ، ولما فيه من المنزلة ، ولذلك قال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013799ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ولذلك كان يقدم الأفاضل من أصحابه ، وكانوا لكثرتهم يتضايقون ، فأمروا بالتفسح إذا أمكن ، لأن ذلك أدخل في التحبب ، وفي الاشتراك في سماع ما لا بد منه في الدين ، وإذا صح ذلك في مجلسه ، فحال الجهاد ينبغي أن يكون مثله ، بل ربما كان أولى ، لأن الشديد البأس قد يكون متأخرا عن الصف الأول ، والحاجة إلى تقدمه ماسة فلا بد من التفسح ، ثم يقاس على هذا سائر مجالس العلم والذكر .
أما قوله تعالى : (
يفسح الله لكم ) فهو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة .
واعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من
وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ، ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية
بالتفسح في المجلس ، بل المراد منه
إيصال الخير إلى المسلم ، وإدخال السرور في قلبه ؛ ولذلك قال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013800لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه المسلم .