(
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال : (
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ) وفيه وجهان :
الوجه الأول : أن المراد : إن الذين يخشون ربهم وهم في دار التكليف والمعارف النظرية وبهم حاجة إلى مجاهدة الشيطان ودفع الشبه بطريق الاستدلال .
الوجه الثاني : أن هذا إشارة إلى كونه متقيا من جميع المعاصي ؛ لأن من يتقي معاصي الله في الخلوة اتقاها حيث يراه الناس لا محالة ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على انقطاع وعيد الفساق ، فقالوا : دلت الآية على أن من كان موصوفا بهذه الخشية فله الأجر العظيم ، فإذا جاء يوم القيامة مع الفسق ومع هذه الخشية ، فقد حصل الأمران فإما أن يثاب ثم يعاقب وهو بالإجماع باطل ، أو يعاقب ثم ينقل إلى دار الثواب وهو المطلوب .
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ووعد المؤمنين على سبيل المغايبة رجع بعد ذلك إلى خطاب الكفار فقال :
(
وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور )
وفيه وجهان :
الوجه الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله فيخبره
جبريل فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم لئلا يسمع إله
محمد ، فأنزل الله هذه الآية .
القول الثاني : أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحد في علمه تعالى بهذا ، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا
[ ص: 59 ] فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى ، وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب .
ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالما بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالما بهذه الأشياء فقال :
(
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن معنى الآية أن من خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه ، وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضا مقررة بالدلائل العقلية ؛ وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك الشيء ، فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصدا إليه ، وكما أنه ثبت أن الخالق لا بد وأن يكون عالما بماهية المخلوق لا بد وأن يكون عالما بكميته ؛ لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو أنقص لا بد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره ، والقصد مسبوق بالعلم ، فلا بد وأن يكون قد علم ذلك المقدار ، وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه ، وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن من خلق شيئا فإنه لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته ، وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن
العبد غير موجد لأفعاله من وجهين :
الوجه الأول : قالوا : لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها ، لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها ، بيان الملازمة من وجهين :
الأول : التمسك بهذه الآية .
الثاني : أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلا ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضا ممكن ، فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص ، لا بد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع ، وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعا للممكن المحدث من غير مرجح ؛ لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلا بد وأن يكون عالما بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص ، فثبت أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها ، وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه :
أحدها : أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات ، فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر ألبتة بباله أنه فعل ههنا حركة وههنا سكونا .
وثانيها : أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها ، وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي ؟ ومعلوم أن ذلك غير معلوم .
وثالثها : أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها .
ورابعها : أن عند
أبي علي ،
وأبي هاشم ، الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز ، ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق ، فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله .
الوجه الثاني : في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول : إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده : (
ألا يعلم من خلق ) وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقا لكل ما يفعلونه في السر والجهر ، وفي الصدور والقلوب ، فإنه لو لم يكن خالقا لها لم يكن قوله : (
ألا يعلم من خلق ) مقتضيا كونه تعالى عالما بتلك الأشياء ، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب ،
[ ص: 60 ] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء ؟ قلنا : إنه لا يلزم من كونه خالقا لغير هذه الأشياء كونه عالما بها ؛ لأن من يكون فاعلا لشيء لا يجب أن يكون عالما بشيء آخر ، نعم يلزم من كونه خالقا لها كونه عالما بها ؛ لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالما به .
المسألة الثانية : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون ( من خلق ) في محل الرفع والمنصوب يكون مضمرا ، والتقدير : ألا يعلم من خلق مخلوقه .
وثانيها : أن يكون ( من خلق ) في محل النصب ويكون المرفوع مضمرا ، والتقدير ألا يعلم الله من خلق ، والاحتمال الأول أولى ؛ لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالما بذات من هو مخلوقه ، ولا يقتضي كونه عالما بأحوال من هو مخلوقه ، والمقصود من الآية هذا لا الأول .
وثالثها : أن تكون ( من ) في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله : (
والسماء وما بناها ) ( الشمس : 5 ) وعلى هذا التقدير تكون ( ما ) إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم ، وهذا يقتضي أن تكون
أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
أما قوله : (
وهو اللطيف الخبير ) فاعلم أنهم اختلفوا في ( اللطيف ) فقال بعضهم : المراد العالم ، وقال آخرون : بل المراد من يكون فاعلا للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لطف الله بعباده عجيب ، ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم ، وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكرارا .