المسألة الخامسة : ذكر
أبو زيد البلخي في كتابه في
الرد على عبدة الأصنام : أن العلم بأن هذه الخشبة
[ ص: 127 ] المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسماوات والأرض والنبات والحيوان علم ضروري ، والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء ، وعبادة الأوثان دين كان موجودا قبل مجيء
نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية ، وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان ، وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين ، فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل ، وإلا لما بقي هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم ، فإذا لا بد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات :
أحدها : قال
أبو معشر جعفر بن محمد المنجم : هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن الله جسم ، وفي مكان ، وذلك لأنهم قالوا : إن الله نور هو أعظم الأنوار ، والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه ، هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم ، فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنما هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه ، واتخذوا أصناما متفاوتة ، بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين ، واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة ، فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم .
الوجه الثاني : وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة ، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها ، فالبشر عبيد هذه الكواكب ، والكواكب عبيد الإله الأعظم, فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب ، ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى ، فاتخذوا أصناما على صورها واشتغلوا بعبادتها ، وغرضهم عبادة الكواكب .
الوجه الثالث : أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر ، كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام ، في
إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب ، فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب ، فكانوا يتخذون ذلك الطلسم ، وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة ، وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته ، وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص ، فقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر .
الوجه الرابع : أنه
كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها ، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم : (
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [الزمر : 3] .
الوجه الخامس : أنه ربما مات ملك عظيم ، أو شخص عظيم ، فكانوا يتخذون تمثالا على صورته وينظرون إليه ، فالذين جاءوا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء ، أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، أسماء خمسة من أولاد
آدم ، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ، ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ، ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن
زيارة القبور أولا ، ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013874كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة .
السادس : الذين يقولون : إنه تعالى جسم ، وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول ، لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان ، أو في شخص صنم ، فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة ، خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ، ولذلك فإن جمعا من قدماء الروافض ، لما رأوا أن
عليا عليه السلام قلع باب
خيبر ، وكان ذلك على خلاف المعتاد ، قالوا : إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله .
الوجه السابع : لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو الله ، فهذا
[ ص: 128 ] جملة ما في هذا الباب ، وبعضها باطلة بدليل العقل ، فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله ، وبطل القول أيضا بالحلول والنزول ، ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات ، بطل القول بالوسايط والطلسمات ، ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم ، بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء .
المسألة السادسة : هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم ، ثم إنها انتقلت عن
قوم نوح إلى العرب ، فكان ود
لكلب ، وسواع
لهمدان ، ويغوث
لمذحج ، ويعوق
لمراد ، ونسر
لحمير . ولذلك سمت العرب بعبد ود ، وعبد يغوث ، هكذا قيل في الكتب ، وفيه إشكال ; لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان ، فكيف بقيت تلك الأصنام ، وكيف انتقلت إلى العرب ؟ ولا يمكن أن يقال : إن
نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام ، إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال : إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها .
المسألة السابعة : قرئ : " لا تذرن ودا " بفتح الواو وبضم الواو ، قال
الليث : ود بفتح الواو صنم كان لقوم
نوح ، ود بالضم صنم
لقريش ، وبه سمي
عمرو بن عبد ود ، وأقول : على قول
الليث وجب أن لا يجوز ههنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة
نوح لا في أحوال
قريش ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : "ولا يغوثا ويعوقا" بالصرف . وهذه قراءة مشكلة ؛ لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف ، إما التعريف ووزن الفعل ، وإما التعريف والعجمة ، فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا .
واعلم أن
نوحا لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم : (
لا تذرن آلهتكم ) قال : (
وقد أضلوا كثيرا ) فيه وجهان :
الأول : أولئك الرؤساء ( قد أضلوا كثيرا ) قبل هؤلاء الموصين بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال .
الثاني : يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الأصنام ، كقوله : (
إنهن أضللن كثيرا من الناس ) [إبراهيم : 36] وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله : (
ألهم أرجل ) [الأعراف : 195] ، وأما قوله تعالى : (
ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) ففيه سؤالان :
الأول : كيف موقع قوله : (
ولا تزد الظالمين ) ؟ ( الجواب ) كأن
نوحا عليه السلام لما أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظا وغضبا عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم .
السؤال الثاني : إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم ؟ ( الجواب ) من وجهين :
الأول : لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين ، بل الضلال في أمر دنياهم ، وفي ترويج مكرهم وحيلهم .
الثاني : الضلال العذاب لقوله : (
إن المجرمين في ضلال وسعر ) [القمر : 47] .
ثم إنه تعالى لما حكى كلام
نوح عليه السلام قال بعده : (
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ( ما ) صلة كقوله : (
فبما نقضهم ) [النساء : 155] (
فبما رحمة ) [آل عمران : 159] والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها ، وقرأ
ابن مسعود : "من خطيآتهم ما أغرقوا" فأخر كلمة ما ، وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة ؛ لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر .