(
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير )
قوله تعالى : (
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
واعلم أنه تعالى لما بين
حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم ، فقال : (
ما يود الذين كفروا ) فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين ، وههنا مسألتان :
المسألة الأولى : " من " الأولى للبيان ؛ لأن الذين كفروا جنس ، تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون ، والدليل عليه قوله تعالى : (
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) [ البينة : 1 ] والثانية : مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة : لابتداء الغاية .
المسألة الثانية : الخير الوحي وكذلك الرحمة ، يدل عليه قوله تعالى : (
أهم يقسمون رحمة ربك ) [ الزخرف : 32 ] المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم ، فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي . ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك ، فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء .
قوله تعالى (
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير )
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من
طعن اليهود في الإسلام ، فقالوا : ألا ترون إلى
محمد يأمر أصحابه
[ ص: 205 ] بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا وغدا يرجع عنه ، فنزلت هذه الآية ، والكلام في الآية مرتب على مسائل :
المسألة الأولى :
النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء ، وقال
القفال : إنه للنقل والتحويل ، لنا أنه يقال : نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت ، ونسخت الشمس الظل إذا عدم ، لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه ، وقال تعالى : (
إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) [ الحج : 52 ] أي : يزيله ويبطله ، والأصل في الكلام الحقيقة . وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألا يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك . فإن قيل : وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار ، والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز ، لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى ، وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول : بل النسخ هو النقل والتحويل ، ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته ، ومنه تناسخ الأرواح ، وتناسخ القرون قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلا عن الأول ، وقال تعالى : (
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) [ الجاثية : 29 ] فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ، ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعا للاشتراك ، والجواب عن الأول من وجهين :
أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ، ويكونان أيضا ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير .
والثاني : أن أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ، فهب أنه كذلك ، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة ، لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس .
وعن الثاني : أن النقل أخص من الإبطال ؛ لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى ، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قرأ
ابن عامر : ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين ، والباقون بفتحهما ، أما قراءة
ابن عامر ففيها وجهان :
أحدهما : أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد .
والثاني : أنسخته جعلته ذا نسخ ؛ كما قال قوم
للحجاج ، وقد صلب رجلا : أقبروا فلانا ، أي اجعلوه ذا قبر ، قال تعالى : (
ثم أماته فأقبره ) [ عبس : 21 ] ، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو : ( ننسأها ) بفتح النون والهمزة ، وهو جزم بالشرط ، ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا ؛ لأن سكونها علامة للجزم ، وهو من النسء ، وهو التأخير . ومنه : (
إنما النسيء زيادة في الكفر ) [ التوبة : 37 ] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة ، وقال أهل اللغة : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله ، أي : أخر وزاد ، وقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011550من سره النسء في الأجل ، والزيادة في الرزق ؛ فليصل رحمه " . والباقون بضم النون وكسر السين ، وهو من النسيان ، ثم الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر ، ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى : (
فنسي ولم نجد له عزما ) [ طه : 115 ] أي : فترك ، وقال : (
فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) [ الأعراف : 51 ] أي : نتركهم كما تركوا ، والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز ؛ لأن المنسي يكون متروكا ، فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم ، وقرئ " ننسها " ، و " ننسها " بالتشديد ، و " تنسها " ، و " تنسها " على خطاب الرسول ، وقرأ
عبد الله : " ما ننسك من آية أو ننسخها " ، وقرأ
حذيفة : " ما ننسخ من آية أو ننسكها " .
[ ص: 206 ] المسألة الثالثة : " ما " في هذه الآية جزائية ، كقولك : ما تصنع أصنع ، وعملها الجزم في الشرط والجزاء إذا كانا مضارعين ، فقوله : ( ننسخ ) شرط ، وقوله : ( نأت ) جزاء ، وكلاهما مجزومان .
المسألة الرابعة : اعلم أن
التناسخ في اصطلاح العلماء عبارة عن طريق شرعي يدل على أن الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا . فقولنا : طريق شرعي - نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله ، والفعل المنقول عنهما . ويخرج عنه إجماع الأمة على أحد القولين ، لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ، ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل ، لأن العقل ليس طريقا شرعيا ، ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخا للحكم الشرعي ؛ لأن المعجز ليس طريقا شرعيا ، ولا يلزم تقيد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء ؛ لأن ذلك غير متراخ ، ولا يلزم ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ، ثم نهانا عن مثله ؛ لأنه لو لم يكن مثل هذا النهي ناسخا لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا .