(
والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر )
(
والرجز فاهجر ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في الرجز وجوها :
الأول : قال
العتبي : الرجز العذاب ، قال الله تعالى : (
لئن كشفت عنا الرجز ) [ الأعراف : 134] أي العذاب ، ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب للعذاب ، وسميت الأصنام رجزا لهذا المعنى أيضا ، فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب
الاحتراز عن كل المعاصي ، ثم على هذا القول احتمالان :
أحدهما : أن قوله : (
والرجز فاهجر ) يعني : كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره ، والتقدير : وذا الرجز فاهجر ، أي ذا العذاب ، فيكون المضاف محذوفا .
والثاني : أنه سمى ما يؤدي إلى العذاب عذابا تسمية للشيء باسم ما يجاوره ويتصل به .
القول الثاني : أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى
[ ص: 171 ] الرجس ، فقوله : (
والرجز فاهجر ) كلام جامع في مكارم الأخلاق ، كأنه قيل له : اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح ، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز ، وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله : (
وثيابك فطهر ) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح .
المسألة الثانية : احتج من جوز
المعاصي على الأنبياء بهذه الآية ، قال : لولا أنه كان مشتغلا بها وإلا لما زجر عنها بقوله : (
والرجز فاهجر ) والجواب : المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران ، كما أن المسلم إذا قال : اهدنا ، فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا ، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية ، فكذا ههنا .
المسألة الثالثة : قرأ
عاصم في رواية
حفص " والرجز " بضم الراء في هذه السورة ، وفي سائر القرآن بكسر الراء ، وقرأ الباقون
وعاصم في رواية
أبي بكر بالكسر ، وقرأ
يعقوب بالضم ، ثم قال
الفراء : هما لغتان ، والمعنى واحد ، وفي كتاب
الخليل : الرجز بضم الراء عبادة الأوثان ، وبكسر الراء العذاب ، ووسواس الشيطان أيضا رجز ، وقال
أبو عبيدة : أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر .
قوله تعالى : (
ولا تمنن تستكثر ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : القراءة المشهورة " تستكثر " برفع الراء ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون التقدير : ولا تمنن لتستكثر ، فتنزع اللام فيرتفع .
وثانيها : أن يكون التقدير : لا تمنن أن تستكثر ، ثم تحذف " أن " الناصبة ، فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ، ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر .
وثالثها : أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدرا أن تستكثر ، قال
أبو علي الفارسي : هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، أي : مقدرا للصيد ، فكذا ههنا المعنى مقدرا الاستكثار ، قال : ويجوز أن يحكى به حالا آتية .
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في تفسير الآية وجوها :
أحدها : أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال : (
ولا تمنن تستكثر ) أي : لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة ، كالمستكثر لما تفعله ، بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقربا بذلك إليه غير ممتن به عليه . قال
الحسن :
لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها .
وثانيها : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام ، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال : (
ولربك فاصبر ) .
وثالثها : لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر ، أي لتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به مالك .
ورابعها : " لا تمنن " أي : لا تضعف ؛ من قولهم : حبل منين ، أي ضعيف ، يقال : منه السير ، أي أضعفه . والتقدير : فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية ، ومن ذهب إلى هذا قال : هو مثل قوله : (
أفغير الله تأمروني أعبد ) [ الزمر : 64] أي : أن أعبد ، فحذفت " أن " ، وذكر
الفراء أن في قراءة
عبد الله " ولا تمتن تستكثر " وهذا يشهد لهذا التأويل ، وهذا القول اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد .
وخامسها : وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله : (
ولا تمنن ) أي لا تعط ، يقال : مننت فلانا كذا ، أي أعطيته ، قال : (
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك ) [ ص : 39] أي فأعط ، أو أمسك ، وأصله أن من أعطى فقد من ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة ، فالمعنى : ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه ، وعلى هذا التأويل سؤالات :
السؤال الأول : ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل ؟ الجواب : الحكمة فيه من وجوه :
الأول : لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا ، فإنه نهي عن طلب الدنيا في قوله : (
ولا تمدن عينيك )
[ ص: 172 ] [ الحجر : 88] وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة ، ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة .
الثاني : أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له ، وذلك لا يليق بمنصب النبوة ، لأنه يوجب دناءة الآخذ ، ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه ، وتنفير المأخوذ منه ، ولهذا قال : (
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ) [ الطور : 40] .
السؤال الثاني : هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، أم يتناول الأمة ؟ الجواب : ظاهر اللفظ لا يفيد العموم ، وقرينة الحال لا تقتضي العموم ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة ، ومن الناس من قال : هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء ، والله تعالى منع الكل من ذلك .
السؤال الثالث : بتقدير أن يكون هذا النهي مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه ؟ والجواب : ظاهر النهي للتحريم .
الوجه السادس في تأويل الآية : قال
القفال : يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن
يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي لأحد شيئا لطلب عوض ، سواء كان ذلك العوض زائدا أو ناقصا أو مساويا ، ويكون معنى قوله : (
تستكثر ) أي طالبا للكثرة ، كارها أن ينقص المال بسبب العطاء ، فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء ، فسمي طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله ، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيبا ، ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا ، وإن كان حين تتزوج أمه - كبيرا ، ومن ذهب إلى هذا القول ، قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خاليا عن انتظار العوض والتفات الناس إليه ، فيكون ذلك خالصا مخلصا لوجه الله تعالى .
الوجه السابع : أن يكون المعنى : ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية ، بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمعتذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام ، فإن الدنيا بأسرها قليلة ، فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا .
وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة :
فالوجه الأول معناه :
كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعا من طلب الزيادة في العوض .
والوجه الثاني معناه :
كونه ممنوعا عن طلب مطلق العوض ، زائدا كان أو مساويا أو ناقصا .
والوجه الثالث معناه : أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام .
الوجه الثامن : معناه إذا أعطيت شيئا فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية ، فإن
المن محبط لثواب العمل ، قال تعالى : (
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) [ البقرة : 264] .
المسألة الثانية : قرأ
الحسن : " تستكثر " بالجزم ، وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة ، ومنهم من قبلها ، وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه :
أحدها : كأنه قيل : لا تمنن لا تستكثر .
وثانيها : أن يكون أراد " تستكثر " فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات ، كما حكاه
أبو زيد في قوله تعالى : (
بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) بإسكان اللام .
وثالثها : أن يعتبر حال الوقف ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : " تستكثر " بالنصب بإضمار " أن " كقوله :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
ويؤيده قراءة
ابن مسعود : " ولا تمنن أن تستكثر " .
[ ص: 173 ]