(
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) .
قوله تعالى : (
وجوه يومئذ ناضرة ) قال
الليث : نضر اللون والشجر والورق ينضر نضرة ، والنضرة النعمة ، والناضر الناعم ، والنضر الحسن من كل شيء ، ومنه يقال للون إذا كان مشرقا : ناضر ، فيقال : أخضر ناضر ، وكذلك في جميع الألوان ، ومعناه الذي يكون له برق ، وكذلك يقال : شجر ناضر ، وروض ناضر . ومنه قوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013895نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها " الحديث . أكثر الرواة رواه بالتخفيف ، وروى
عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي فيه التشديد ، وألفاظ المفسرين مختلفة في تفسير الناضر ، ومعناها واحد ، قالوا :
[ ص: 200 ] مسرورة ، ناعمة ، مضيئة ، مشرقة ، بهجة . وقال
الزجاج : نضرت بنعيم الجنة ، كما قال : (
تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) [ المطففين : 24] .
(
إلى ربها ناظرة )
اعلم أن جمهور أهل السنة يتمسكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة . أما
المعتزلة فلهم ههنا مقامان :
أحدهما : بيان أن ظاهره لا يدل على
رؤية الله تعالى .
والثاني : بيان التأويل .
أما المقام الأول : فقالوا : النظر المقرون بحرف " إلى " ليس اسما للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية ، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة ، وكالإصغاء بالنسبة إلى السماع ، فكما أن نظر القلب مقدمة للمعرفة ، والإصغاء مقدمة للسماع ، فكذا نظر العين مقدمة للرؤية ، قالوا : والذي يدل على أن النظر ليس اسما للرؤية وجوه :
الأول : قوله تعالى : (
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) [ الأعراف : 198] أثبت النظر حال عدم الرؤية ، فدل على أن النظر غير الرؤية .
والثاني : أن النظر يوصف بما لا توصف به الرؤية ، يقال : نظر إليه نظرا شزرا ، ونظر غضبان ، ونظر راض ، وكل ذلك لأجل أن حركة الحدقة تدل على هذه الأحوال ، ولا توصف الرؤية بشيء من ذلك ، فلا يقال : رآه شزرا ، ورآه رؤية غضبان ، أو رؤية راض .
الثالث : يقال : انظر إليه حتى تراه ، ونظرت إليه فرأيته ، وهذا يفيد كون الرؤية غاية للنظر ، وذلك يوجب الفرق بين النظر والرؤية .
الرابع : يقال : دور بني فلان متناظرة ، أي متقابلة ، فمسمى النظر حاصل ههنا ، ومسمى الرؤية غير حاصل .
الخامس : قول الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
أثبت النظر المقرون بحرف " إلى " مع أن الرؤية ما كانت حاصلة .
السادس : احتج
أبو علي الفارسي على أن النظر ليس عبارة عن الرؤية التي هي إدراك البصر ، بل هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو الجهة التي فيها الشيء الذي يراد رؤيته ، لقول الشاعر :
فيا مي هل يجزي بكائي بمثله مرارا وأنفاسي إليك الزوافرا
وإني متى أشرف على الجانب الذي به أنت من بين الجوانب ناظرا
قال : فلو كان النظر عبارة عن الرؤية لما طلب الجزاء عليه ، لأن المحب لم يطلب الثواب على رؤية المحبوب ، فإن ذلك من أعظم مطالبه ، قال : ويدل على ذلك أيضا قول الآخر :
ونظرة ذي شجن وامق إذا ما الركائب جاوزن ميلا
والمراد منه تقليب الحدقة نحو الجانب الذي فيه المحبوب ، فعلمنا بهذه الوجوه أن النظر المقرون بحرف " إلى " ليس اسما للرؤية .
السابع : أن قوله : (
إلى ربها ناظرة ) معناه أنها تنظر إلى ربها خاصة ولا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، ألا ترى إلى قوله : (
إلى ربك يومئذ المستقر ) [ القيامة : 12] ، (
إلى ربك يومئذ المساق ) [ القيامة : 30] ، (
ألا إلى الله تصير الأمور ) [ الشورى : 53] ، (
وإليه ترجعون ) [ الزخرف : 85] ، (
وإلى الله المصير ) [ فاطر : 18] (
عليه توكلت وإليه أنيب ) [ الشورى : 10] كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد
[ ص: 201 ] في موقف القيامة ، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين (
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ البقرة : 62] فلما دلت الآية على أن النظر ليس إلا إلى الله ، ودل العقل على أنهم يرون غير الله ، علمنا أن
المراد من النظر إلى الله ليس هو الرؤية .
الثامن : قال تعالى : (
ولا ينظر إليهم يوم القيامة ) [ آل عمران : 77] ولو قال : لا يراهم كفى ، فلما نفى النظر ، ولم ينف الرؤية دل على المغايرة ، فثبت بهذه الوجوه ، أن النظر المذكور في هذه الآية ليس هو الرؤية .
المقام الثاني : في بيان التأويل المفصل ، وهو من وجهين :
الأول : أن يكون الناظر بمعنى المنتظر ، أي أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله ، وهو كقول القائل : إنما أنظر إلى فلان في حاجتي ، والمراد أنتظر نجاحها من جهته ، وقال تعالى : (
فناظرة بم يرجع المرسلون ) [ النمل : 35] وقال : (
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) [ البقرة : 280] لا يقال : النظر المقرون بحرف " إلى " غير مستعمل في معنى الانتظار ، ولأن الانتظار غم وألم ، وهو لا يليق
بأهل السعادة يوم القيامة ، لأنا نقول : الجواب عن الأول من وجهين :
الأول : النظر المقرون بحرف " إلى " قد يستعمل بمعنى الانتظار والتوقع ، والدليل عليه أنه يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، والمراد منه التوقع والرجاء ، وقال الشاعر :
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما
وتحقيق الكلام فيه أن قولهم في الانتظار " نظرت " بغير صلة ، فإنما ذلك في الانتظار لمجيء الإنسان بنفسه ، فأما إذا كان منتظرا لرفده ومعونته ، فقد يقال فيه : نظرت إليه ؛ كقول الرجل : وإنما نظري إلى الله ثم إليك ، وقد يقول ذلك من لا يبصر ، ويقول الأعمى في مثل هذا المعنى : عيني شاخصة إليك ، ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن المراد من " إلى " ههنا حرف التعدي ، بل هو واحد الآلاء ، والمعنى : وجوه يومئذ ناضرة ، نعمة ربها منتظرة .
وأما السؤال الثاني : وهو أن الانتظار غم وألم ، فجوابه أن المنتظر إذا كان فيما ينتظره على يقين من الوصول إليه ، فإنه يكون في أعظم اللذات .
التأويل الثاني : أن يضمر المضاف ، والمعنى : إلى ثواب ربها ناظرة ، قالوا : وإنما صرنا إلى هذا التأويل ؛ لأنه لما دلت الدلائل السمعية والعقلية على أنه تعالى تمتنع رؤيته وجب المصير إلى التأويل ، ولقائل أن يقول : فهذه الآية تدل أيضا على أن النظر ليس عبارة عن تقليب الحدقة ، لأنه تعالى قال : (
لا ينظر إليهم ) ، وليس المراد أنه تعالى يقلب الحدقة إلى جهنم ، فإن قلتم : المراد أنه لا ينظر إليهم نظر الرحمة كان ذلك جوابنا عما قالوه .
التأويل الثالث : أن يكون معنى (
إلى ربها ناظرة ) أنها لا تسأل ولا ترغب إلا إلى الله ، وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013896اعبد الله كأنك تراه " فأهل القيامة لشدة تضرعهم إليه وانقطاع أطماعهم عن غيره صاروا كأنهم ينظرون إليه . الجواب : قوله : ليس النظر عبارة عن الرؤية ، قلنا : ههنا مقامان :
الأول : أن تقيم الدلالة على أن النظر هو الرؤية من وجهين :
الأول : ما حكى الله تعالى عن
موسى عليه السلام وهو قوله : (
أنظر إليك ) [ الأعراف : 143] فلو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب
[ ص: 202 ] المرئي ، لاقتضت الآية أن
موسى عليه السلام أثبت لله تعالى وجهة ومكانا ، وذلك محال .
الثاني : أنه جعل النظر أمرا مرتبا على الإرادة فيكون النظر متأخرا عن الإرادة ، وتقليب الحدقة غير متأخر عن الإرادة ، فوجب أن يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي .