[ ص: 210 ] أما قوله تعالى : (
نأت بخير منها أو مثلها ) ففيه قولان :
أحدهما : أنه الأخف .
والثاني : أنه الأصلح ، وهذا أولى ؛ لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه ، لا على ما هو أخف على طباعه . فإن قيل : لو كان الثاني أصلح من الأول ، لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به ؟ قلنا : الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول ، والثاني بالعكس منه ، فزال السؤال . واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ :
المسألة الأولى : قال قوم : لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل ، واحتجوا بأن هذه الآية تدل على
أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه ، أو بما يكون مثله ، وذلك صريح في وجوب البدل . والجواب : لم لا يجوز أن يقال : المراد أن نفي ذلك الحكم ، وإسقاط التعبد به - خير من ثبوته في ذلك الوقت ، ثم الذي يدل على
وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا إلى بدل .
المسألة الثانية : قال قوم : لا يجوز
نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه ، واحتجوا بأن قوله : (
نأت بخير منها أو مثلها ) ينافي كونه أثقل ؛ لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله . والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابا في الآخرة ، ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر . إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة ، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها . وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة .
المسألة الثالثة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - : الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة ، واستدل عليه بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها ، وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه ، كما إذا قال الإنسان : ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه ، يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه ، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن .
وثانيها : أن قوله تعالى : (
نأت بخير منها ) يفيد أنه القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام .
وثالثها : أن قوله : (
نأت بخير منها ) يفيد أن المأتي به خير من الآية ، والسنة لا تكون خيرا من القرآن .
ورابعها : أنه قال : (
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات ، وذلك هو الله تعالى . والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها : أن قوله تعالى : (
نأت بخير منها ) ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا ، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ ، والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى ، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبا على الإتيان بهذا الخير ، لزم الدور وهو باطل ، ثم احتج الجمهور على وقوع
نسخ الكتاب بالسنة ؛ لأن آية الوصية للأقربين منسوخة ، بقوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011552ألا لا وصية لوارث " وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - : أما الأول فضعيف ؛ لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية ، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، وأما الثاني فضعيف أيضا ؛ لأن
عمر - رضي الله عنه - روى أن قوله " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة " كان قرآنا ، فلعل النسخ إنما وقع به ، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، والله أعلم .
[ ص: 211 ] أما قوله تعالى : (
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) فتنبيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره على
قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته ، وأنه لا دافع لما أراد ، ولا مانع لما اختار .
المسألة التاسعة : استدلت
المعتزلة بهذه الآية على أن
القرآن مخلوق من وجوه :
أحدها : أن كلام الله تعالى لو كان قديما لكان الناسخ والمنسوخ قديمين ، لكن ذلك محال ؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرا عن المنسوخ ، والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديما ، وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع ، وما ثبت زواله استحال قدمه بالاتفاق .
وثانيها : أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض ، وما كان كذلك لا يكون قديما .
وثالثها : أن قوله : (
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها ، والإتيان بشيء آخر بدلا من الأول ، وما كان داخلا تحت القدرة وكان فعلا كان محدثا ، أجاب الأصحاب عنه : بأن كونه ناسخا ومنسوخا إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ، ولا نزاع في حدوثها ، فلم قلتم : إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث ؟ قالت
المعتزلة : ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر ، فالتعلق الأول محدث ؛ لأنه زال ، والقديم لا يزول ، والتعلق الثاني حادث ؛ لأنه حصل بعدما لم يكن ، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات ، وما لا ينفك عن هذه التعلقات ( محدث ) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثا .
أجاب الأصحاب : أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم ، فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق ؟ فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادرا على إيجاد الموجود ، وهو محال ، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق ؛ فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه ، وكذلك علم الله كان متعلقا بأن العالم سيوجد ، فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلا ، وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثا ؛ لأنه لو كان قديما لما زال ، ويكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثا ، فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة ، وما لا ينفك عن المحدث محدث ، فعالمية الله محدثة ، فكل ما تجعلونه جوابا عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام .
المسألة العاشرة : احتجوا بقوله تعالى : (
أن الله على كل شيء قدير ) على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده ، والقدير فعيل بمعنى الفاعل ، وهو بناء المبالغة .