(
ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى : (
ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ) اعلم أن المقصود من هذه الصورة
تخويف الكفار ، وتحذيرهم عن الكفر .
فالنوع الأول من التخويف أنه أقسم على أن اليوم الذي يوعدون به وهو يوم الفصل واقع ، ثم هول فقال : (
وما أدراك ما يوم الفصل ) ، ثم زاد في التهويل فقال : (
ويل يومئذ للمكذبين ) .
والنوع الثاني من التخويف : ما ذكر في هذه الآية ، وهو أنه
أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم ، فإذا كان الكفر حاصلا في هؤلاء المتأخرين ، فلا بد وأن يهلكهم أيضا ، ثم قال : (
ويل يومئذ للمكذبين ) كأنه يقول : أما الدنيا فحاصلهم الهلاك ، وأما الآخرة فالعذاب الشديد ، وإليه الإشارة بقوله : (
خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) [ الحج : 11 ] وفي الآية سؤالان :
الأول : ما المراد من الأولين والآخرين ؟
الجواب : فيه قولان :
الأول : أنه
أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ثم أتبعهم الآخرين قوم شعيب ولوط وموسى ، (
كذلك نفعل بالمجرمين ) وهم كفار
قريش ، وهذا القول ضعيف ؛ لأن قوله : (
نتبعهم الآخرين ) بلفظ المضارع فهو يتناول الحال والاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة .
القول الثاني : أن المراد بالأولين جميع الكفار الذين كانوا قبل
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : (
ثم نتبعهم الآخرين ) على الاستئناف على معنى سنفعل ذلك ونتبع الأول الآخر ، ويدل على الاستئناف قراءة
عبد الله : " سنتبعهم " ، فإن قيل : قرأ
الأعرج : " ثم نتبعهم " بالجزم ، وذلك يدل على الاشتراك في " ألم " ، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل ، قلنا : القراءة الثابتة بالتواتر : " نتبعهم " بحركة العين ، وذلك يقتضي المستقبل ، فلو اقتضت القراءة بالجزم أن يكون المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين ، وإنه غير جائز . فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم ، بل للتخفيف كما روي في بيت
امرئ القيس :
واليوم أشرب غير مستحقب
ثم إنه تعالى لما بين أنه يفعل بهؤلاء المتأخرين مثل ما يفعل بأولئك المتقدمين قال : (
كذلك نفعل بالمجرمين ) أي : هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين ، فلا جرم عم في جميع المجرمين ؛ لأن
عموم [ ص: 240 ] العلة يقتضي عموم الحكم .
ثم قال تعالى : (
ويل يومئذ للمكذبين ) أي : هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا ،
فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة .
السؤال الثاني : المراد من الإهلاك في قوله : (
ألم نهلك الأولين ) هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب ؟ فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفا للكفار ؛ لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر ، فلا يصلح تحذيرا للكافر ، وإن كان المراد هو الثاني ، وهو الإماتة بالعذاب فقوله : (
ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ) يقتضي أن يكون الله قد فعل بكفار
قريش مثل ذلك ، ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك ، وأيضا فلأنه تعالى قال : (
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33] الجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد منه
الإماتة بالتعذيب ، وقد وقع ذلك في حق
قريش وهو يوم
بدر ؟ سلمنا ذلك ، فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثا مغايرا للأمرين اللذين ذكروهما ، وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن ؟ فكأنه قيل : إن أولئك المتقدمين لحرصهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم ، ثم ماتوا ، فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا ، والعقوبة الأخروية دائما سرمدا ، فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ، ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر .