المسألة الأولى : قوله : (
خلق فسوى ) يحتمل أن يريد به الناس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها .
أحدها : أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة ، على ما قال : (
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) [ التين : 4 ] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه ، فقال : (
فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] .
وثانيها : أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط ، وغير مستعد لسائر الأعمال ، أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا .
وثالثها : أنه هيئ للتكليف والقيام بأداء العبادات .
وأما من حمله على جميع الحيوانات ، قال : المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس ، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، وأما من حمله على جميع المخلوقات ، قال : المراد من التسوية هو
أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات ، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفا بوصف الإحكام والإتقان ، مبرأ عن الفسخ والاضطراب .
المسألة الثانية : قرأ الجمهور : " قدر " مشددة وقرأ
الكسائي على التخفيف ، أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم ، وأما التخفيف فقال
القفال : معناه ملك فهدى وتأويله : أنه خلق فسوى ، وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد ، وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه ، ومنهم من قال : هما لغتان بمعنى واحد ، وعليه قوله تعالى : (
فقدرنا فنعم القادرون ) [ المرسلات : 23 ] بالتشديد والتخفيف .
[ ص: 127 ] المسألة الثالثة : أن قوله : ( قدر ) يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السماوات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم ، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقدارا معلوما على ما قال : (
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) [ الحجر : 21 ] وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات ، بل العالم كله من أعلى عليين إلى أسفل السافلين ، تفسير هذه الآية . وتفصيل هذه الجملة .
أما قوله : ( فهدى ) فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين ، فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى ، وقوله : ( فهدى ) عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدرا لفعل معين ، ويحصل من مجموعها تمام المصلحة ، وللمفسرين فيه وجوه ، قال
مقاتل : هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها ، وقال آخرون : هداه للمعيشة ورعاه ، وقال آخرون : هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة ، وذلك لأنه جعله حساسا دراكا متمكنا من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال : (
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) [ الإنسان : 3 ] وقال : (
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) [ الشمس : 8 ] وقال
السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال
الفراء : قدر فهدى وأضل ، فاكتفى بذكر إحداهما : كقوله : (
سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] وقال آخرون : الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله : (
وإنك لتهدي ) [ الشورى : 52 ] أي تدعو ، وقد دعي الكل إلى الإيمان ، وقال آخرون : هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه ، ونعوت صمديته ، وفردانيته ، وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعالا محكمة متقنة منتسقة منتظمة ، فهي لا محالة تدل على الصانع القديم ، وقال
قتادة في قوله : ( فهدى )
إن الله تعالى ما أكره عبدا على معصية ، ولا على ضلالة ، ولا رضيها له ولا أمره بها ، ولكن رضي لكم بالطاعة ، وأمركم بها ، ونهاكم عن المعصية ، واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين ، فمنهم من حمل قوله : ( فهدى ) على ما يتعلق بالدين كقوله : (
وهديناه النجدين ) [ البلد : 10 ] ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا ، والأول أقوى ، لأن قوله : (
الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) يرجع إلى أحوال الدنيا ، ويدخل فيه إكمال العقل والقوى ، ثم أتبعه بقوله : ( فهدى ) أي كلفه ودله على الدين ، أما قوله تعالى : (
والذي أخرج المرعى ) فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم : فقال : (
والذي أخرج المرعى ) أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة ،
والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : المرعى الكلأ الأخضر ، ثم قال : فجعله غثاء أحوى وفيه مسألتان :