[ ص: 135 ] (
بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى )
ثم قال تعالى : (
بل تؤثرون الحياة الدنيا ) وفيه قراءتان : قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف
أبي ، أي : بل أنتم
تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة . قال
ابن مسعود : إن الدنيا أحضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا ، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل . وقرأ
أبو عمرو : " يؤثرون " بالياء يعني : الأشقى .
ثم قال تعالى : (
والآخرة خير وأبقى )
وتمامه أن كل ما كان خيرا وأبقى فهو آثر ، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا ، وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه :
أحدها : أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ، والدنيا ليست كذلك ، فالآخرة خير من الدنيا .
وثانيها : أن
الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام ، والآخرة ليست كذلك .
وثالثها : أن
الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، والباقي خير من الفاني .
ثم قال : (
إن هذا لفي الصحف الأولى ) واختلفوا في المشار إليه بلفظ " هذا " منهم من قال : جميع السورة ، وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله والوعد على طاعة الله تعالى .
ومنهم من قال : بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله : (
قد أفلح من تزكى ) إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي .
أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة ، وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذميمة .
وأما قوله : (
وذكر اسم ربه ) فهو إشارة إلى
تكميل الروح بمعرفة الله تعالى ، وأما قوله : (
فصلى ) فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى .
وأما قوله : (
بل تؤثرون الحياة الدنيا ) فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا .
وأما قوله : (
والآخرة خير وأبقى ) فهو إشارة إلى
الترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى ، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع ، فلهذا السبب قال : (
إن هذا لفي الصحف الأولى ) وهذا الوجه كما تأكد بالفعل فالخبر يدل عليه ، روي عن
أبي ذر أنه قال : قلت : هل في الدنيا مما في صحف
إبراهيم وموسى ؟ فقال : اقرأ يا
أبا ذر (
قد أفلح من تزكى ) وقال آخرون : إن قوله " هذا " إشارة إلى قوله : (
والآخرة خير وأبقى ) وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية ، وأما قوله : (
لفي الصحف الأولى ) فهو نظير لقوله : (
وإنه لفي زبر الأولين ) [ الشعراء : 196 ] وقوله : (
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) [ الشورى : 13 ] .