(
إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )
قوله تعالى : (
إن سعيكم لشتى ) هذا جواب القسم ، فأقسم تعالى بهذه الأشياء ، أن أعمال عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء ، و" شتى " جمع شتيت مثل مرضى ومريض ، وإنما قيل للمختلف : شتى ، لتباعد ما بين بعضه وبعضه ، والشتات هو التباعد والافتراق ، فكأنه قيل : إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض ; لأن بعضه ضلال وبعضه هدى ، وبعضه يوجب الجنان ، وبعضه يوجب النيران ، فشتان ما بينهما ، ويقرب من هذه الآية قوله : (
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ) [ الحشر : 20 ] وقوله : (
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) [ السجدة : 18 ] وقوله : (
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) [ الجاثية : 21 ] وقال : (
ولا الظل ولا الحرور ) [ فاطر : 21 ] قال المفسرون : نزلت هذه الآية في
أبي بكر وأبي سفيان .
ثم إنه سبحانه بين معنى
اختلاف الأعمال فيما قلناه من العاقبة المحمودة والمذمومة والثواب والعقاب ، فقال : (
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) .
وفي قوله " أعطى " وجهان :
أحدهما : أن يكون المراد
إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعله
أبو بكر سواء كان ذلك واجبا أو نفلا ، وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله : (
ومما رزقناهم ينفقون ) [ القصص : 54 ] فإن المراد منه كل ذلك إنفاقا في سبيل الله سواء كان واجبا أو نفلا ، وقد مدح الله قوما فقال : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) [ الإنسان : 8 ] وقال في آخر هذه السورة : (
وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى [ ص: 181 ] إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ الليل : 17 ] .
وثانيهما : أن قوله : (
أعطى ) يتناول
إعطاء حقوق المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى ، يقال : فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة . وقوله : (
واتقى ) فهو إشارة إلى الاحتراز عن كل ما لا ينبغي ، وقد ذكرنا أنه هل من شرط كونه متقيا أن يكون محترزا عن الصغائر أم لا ؟ في تفسير قوله تعالى : (
هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] . وقوله : (
وصدق بالحسنى ) فالحسنى فيها وجوه :
أحدها : أنها قول " لا إله إلا الله " ، والمعنى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالتوحيد والنبوة حصلت له الحسنى ، وذلك لأنه
لا ينفع مع الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم ، وهو كقوله : (
أو إطعام في يوم ذي مسغبة ) [ البلد : 14 ] إلى قوله : (
ثم كان من الذين آمنوا ) [ البلد : 17 ] .
وثانيها : أن الحسنى عبارة عما فرضه الله تعالى من العبادات على الأبدان وفي الأموال كأنه قيل : أعطى في سبيل الله واتقى المحارم وصدق بالشرائع ، فعلم أنه تعالى لم يشرعها إلا لما فيها من وجوه الصلاح والحسن .
وثالثها : أن الحسنى هو الخلف الذي وعده الله في قوله : (
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) [ سبأ : 39 ] والمعنى : أعطى من ماله في طاعة الله مصدقا بما وعده الله من الخلف الحسن ، وذلك أنه قال : (
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) [ البقرة : 261 ] فكان الخلف لما كان زائدا صح إطلاق لفظ الحسنى عليه ، وعلى هذا المعنى : (
وكذب بالحسنى ) أي لم يصدق بالخلف ، فبخل بماله لسوء ظنه بالمعبود ، كما قال بعضهم : منع الموجود سوء ظن بالمعبود ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء أنه قال : " ما من يوم غربت فيه الشمس إلا وملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين :
اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا " .
ورابعها : أن الحسنى هو الثواب ، وقيل : إنه الجنة ، والمعنى واحد ، قال
قتادة : صدق بموعود الله فعمل لذلك الموعود ، قال
القفال : وبالجملة فإن الحسنى لفظة تسع كل خصلة حسنة ، قال الله تعالى : (
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) [ التوبة : 52 ] يعني النصر أو الشهادة ، وقال تعالى : (
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) [ الشورى : 23 ] فسمى مضاعفة الأجر حسنى ، وقال : (
إن لي عنده للحسنى ) [ فصلت : 50 ] .
وأما قوله : (
فسنيسره لليسرى ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه اللفظة وجوه :
أحدها : أنها الجنة .
وثانيها : أنها الخير ، وقالوا في العسرى : أنها الشرك .
وثالثها : المراد منه أن يسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك ، والمراد من العسرى تعسير كل ذلك عليه .
ورابعها : اليسرى هي العود إلى الطاعة التي أتى بها أولا ، فكأنه قال فسنيسره لأن يعود إلى الإعطاء في سبيل الله ، وقالوا : في العسرى ضد ذلك أي نيسره لأن يعود إلى البخل والامتناع من أداء الحقوق المالية ، قال
القفال : ولكل هذه الوجوه مجاز من اللغة ، وذلك لأن
الأعمال بالعواقب ، فكل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة ، فإن ذلك من اليسرى ، وذلك وصف كل الطاعات ، وكل ما أدت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى ، وذلك وصف كل المعاصي .
المسألة الثانية :
التأنيث في لفظ اليسرى ولفظ العسرى فيه وجوه :
أحدها : أن المراد من اليسرى والعسرى إن كان جماعة الأعمال ، فوجه التأنيث ظاهر ، وإن كان المراد عملا واحدا رجع التأنيث إلى الخلة أو الفعلة ، وعلى هذا من جعل " يسرى " هو تيسير العود[ ة ] إلى ما فعله الإنسان من الطاعة رجع التأنيث إلى العود[ة ] ، وكأنه قال : فسنيسره للعود[ة] التي هي كذا .
وثانيها : أن يكون مرجع التأنيث إلى الطريقة فكأنه قال :
[ ص: 182 ] للطريقة اليسرى والعسرى .
وثالثها : أن
العبادات أمور شاقة على البدن ، فإذا علم المكلف أنها تفضي إلى الجنة سهلت تلك الأفعال الشاقة عليه ، بسبب توقعه للجنة ، فسمى الله تعالى الجنة يسرى ، ثم علل حصول اليسرى في أداء الطاعات بهذه اليسرى . وقوله : (
فسنيسره لليسرى ) بالضد من ذلك .
المسألة الثالثة : في معنى التيسير لليسرى والعسرى وجوه : وذلك لأن من فسر اليسرى بالجنة فسر التيسير لليسرى بإدخال الله تعالى إياهم في الجنة بسهولة وإكرام ، على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله : (
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) [ الرعد : 23 ] وقوله : (
طبتم فادخلوها خالدين ) [ الزمر : 73 ] وقوله : (
سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 24 ] وأما من فسر اليسرى بأعمال الخير فالتيسير لها هو تسهيلها على من أراد حتى لا يعتريه من التثاقل ما يعتري المرائين والمنافقين من الكسل ، قال الله تعالى : (
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) [ البقرة : 45 ] وقال : (
وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) [ النساء : 142 ] ، وقال : (
ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) [ التوبة : 38 ] فكان التيسير هو التنشيط .
المسألة الرابعة : استدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في
التوفيق والخذلان ، فقالوا : إن قوله تعالى : (
فسنيسره لليسرى ) يدل على أنه تعالى خص المؤمن بهذا التوفيق ، وهو أنه جعل الطاعة بالنسبة إليه أرجح من المعصية ، وقوله : (
فسنيسره للعسرى ) يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان ، وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة ، وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القول بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ، ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض . أجاب
القفال - رحمه الله - عن وجه التمسك بالآية من وجوه :
أحدها : أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور ، قال تعالى : (
وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] وقال : (
فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيرا لليسرى ، سمى ترك هذه الألطاف تيسيرا للعسرى .
وثانيها : أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل . كما قيل في الأصنام : (
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) [ إبراهيم : 36 ] .
وثالثها : أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه والجواب : عن الكل أنه عدول عن الظاهر ، وذلك غير جائز ، لا سيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع ، ثم إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روي عن
علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013963ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار ، قلنا : أفلا نتكل ؟ قال : لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له " أجاب
القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله ، كما قال : (
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جوابا عن سؤالهم ، يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله ، وهذا يدل على قولنا : أن
ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : في دخول السين في قوله : (
فسنيسره ) وجوه :
أحدها : أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين ، كما في قوله : (
اعبدوا ربكم ) إلى قوله (
لعلكم تتقون )
[ ص: 183 ] [ البقرة : 21 ] .
وثانيها : أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصيا ، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعا ، فهذا السبب كان التغيير فيه محالا .
وثالثها : أن الثواب لما كان أكثره واقعا في الآخرة ، وكان ذلك مما لم يأت وقته ، ولا يقف أحد على وقته إلا الله ، لا جرم دخله تراخ ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر ، والله أعلم .