(
ووجدك عائلا فأغنى ) .
أما
قوله تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : العائل هو ذو العيلة ، وذكرنا ذلك عند قوله : (
ألا تعولوا ) [النساء : 3] ويدل عليه قوله تعالى : (
وإن خفتم عيلة ) [التوبة : 28] ثم أطلق العائل على الفقير ، وإن لم يكن له عيال ، وههنا في تفسير العائل قولان :
الأول : وهو المشهور أن المراد هو الفقير ، ويدل عليه ما روي أنه في مصحف
عبد الله : " ووجدك عديما " وقرئ "عيلا" كما قرئ "سيحات" ، ثم في كيفية الإغناء وجوه :
الأول : أن الله تعالى أغناه بتربية
أبي طالب ، ولما اختلت أحوال
أبي طالب أغناه [الله] بمال
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة ، ولما اختل ذلك أغناه [الله] بمال
أبي بكر ، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة
الأنصار ، ثم أمره بالجهاد ، وأغناه بالغنائم ، وإن كان إنما حصل
[ ص: 198 ] بعد نزول هذه السورة ، لكن لما كان ذلك معلوم الوقوع كان كالواقع ، روي أنه عليه السلام : "
دخل على nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة وهو مغموم ، فقالت له ما لك ، فقال : الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحي منك ، وإن لم أبذل أخاف الله ، فدعت قريشا وفيهم الصديق ، قال الصديق : فأخرجت دنانير وصبتها حتى بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي لكثرة المال ، ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه ، وإن شاء أمسكه " .
الثاني : أغناه بأصحابه كانوا يعبدون الله سرا حتى قال عمر حين أسلم :
ابرز أتعبد اللات جهرا ونعبد الله سرا ! فقال عليه السلام : حتى تكثر الأصحاب ، فقال حسبك الله وأنا فقال تعالى : ( حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [الأنفال : 64] فأغناه الله بمال أبي بكر ، وبهيبة عمر " .
الثالث : أغناك بالقناعة فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب ، لا تجد في قلبك سوى ربك ، فربك غني عن الأشياء لا بها ، وأنت بقناعتك استغنيت عن الأشياء ، وإن الغنى الأعلى الغنى عن الشيء لا به ، ومن ذلك أنه عليه السلام خير بين الغنى والفقر ، فاختار الفقر .
الرابع : كنت عائلا عن البراهين والحجج ، فأنزل الله عليك القرآن ، وعلمك ما لم تكن تعلم فأغناك .
القول الثاني في تفسير العائل : أنت كنت كثير العيال وهم الأمة ، فكفاك . وقيل : فأغناهم بك لأنهم فقراء بسبب جهلهم ، وأنت صاحب العلم ، فهداهم على يدك ، وههنا سؤالات .
السؤال الأول : ما الحكمة في أنه تعالى اختار له اليتم ؟ قلنا : فيه وجوه :
أحدها : أن يعرف قدر اليتامى فيقوم بحقهم وصلاح أمرهم ، ومن ذلك كان
يوسف عليه السلام لا يشبع . فقيل له في ذلك : فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع .
وثانيها : ليكون اليتيم مشاركا له في الاسم فيكرم لأجل ذلك ، ومن ذلك قال عليه السلام : "
إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه ، ووسعوا له في المجلس " .
وثالثها : أن من كان له أب أو أم كان اعتماده عليهما ، فسلب عنه الوالدان حتى لا يعتمد من أول صباه إلى آخر عمره على أحد سوى الله ، فيصير في طفوليته متشبها
بإبراهيم عليه السلام في قوله : حسبي من سؤالي ، علمه بحالي ، وكجواب
مريم : (
أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) [آل عمران : 37] .
ورابعها : أن العادة جارية بأن اليتيم لا تخفى عيوبه بل تظهر ، وربما زادوا على الموجود فاختار تعالى له اليتم ، ليتأمل كل أحد في أحواله ، ثم لا يجدوا عليه عيبا فيتفقون على نزاهته ، فإذا اختاره الله للرسالة لم يجدوا عليه مطعنا .
وخامسها : جعله يتيما ليعلم كل أحد أن فضيلته من الله ابتداء لأن الذي له أب ، فإن أباه يسعى في تعليمه وتأديبه .
وسادسها : أن اليتم والفقر نقص في حق الخلق ، فلما صار
محمد عليه الصلاة والسلام مع هذين الوصفين أكرم الخلق ، كان ذلك قلبا للعادة ، فكان من جنس المعجزات .
السؤال الثاني : ما الحكمة في أن الله ذكر هذه الأشياء ؟ الجواب : الحكمة أن لا ينسى نفسه فيقع في العجب .
السؤال الثالث : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013978سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها ، قلت : اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلمت موسى تكليما ، وسخرت مع داود الجبال ، وأعطيت سليمان كذا وكذا ، وأعطيت فلانا كذا وكذا ، فقال : ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ قلت : بلى . فقال : ألم أشرح لك صدرك ؟ قلت : بلى ، قال : ألم أرفع لك ذكرك ؟ قلت : بلى قال : [ ص: 199 ] ألم أصرف عنك وزرك ؟ قلت : بلى ، ألم أوتك ما لم أوت نبيا قبلك وهي خواتيم سورة البقرة ؟ ألم أتخذك خليلا كما اتخذت إبراهيم خليلا ؟ " فهل يصح هذا الحديث . قلنا : طعن القاضي في هذا الخبر فقال : إن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون مثل ذلك إلا عن إذن ، فكيف يصح أن يقع من الرسول مثل هذا السؤال . ويكون منه تعالى ما يجري مجرى المعاتبة .