(
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم )
قوله تعالى : (
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) . اعلم أن في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، الضابط أن الأكثرين زعموا أنها إنما نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها إنما نزلت في أمر لا يتعلق بالصلاة ، أما القول الأول فهو أقوى لوجهين :
أحدها : أنه هو المروي عن كافة الصحابة والتابعين ، وقولهم حجة .
وثانيهما : أن ظاهر قوله : (
فأينما تولوا ) يفيد
التوجه إلى القبلة في الصلاة ، ولهذا لا يعقل من قوله : (
فولوا وجوهكم ) [ البقرة : 144 ] إلا هذا المعنى ، إذا ثبت هذا فنقول : القائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه :
أحدها : أنه تعالى أراد به
تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة ، فبين تعالى أن
[ ص: 18 ] المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة ؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها ، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فإن جعل
الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك ؛ لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد ، وهو واسع عليم بمصالحهم ، فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر ، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة .
وثانيها : أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر
اليهود ذلك فنزلت الآية ردا عليهم ، وهو قول ابن عباس ، وهو نظير قوله : (
قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ البقرة : 142 ] .
وثالثها : قول
أبي مسلم ، وهو أن
اليهود والنصارى كل واحد منهم قال : إن الجنة له لا لغيره ، فرد الله عليهم بهذه الآية ؛ لأن
اليهود إنما استقبلوا
بيت المقدس ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة ،
والنصارى استقبلوا المشرق ؛ لأن
عيسى عليه السلام إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك في قوله تعالى : (
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ) [ مريم : 16 ] فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق ، فكيف تخلص لهم الجنة ، وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق .
ورابعها : قال بعضهم : إن الله تعالى نسخ
بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية ، فكان للمسلمين أن يتوجهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة ، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يختار التوجه إلى
بيت المقدس ، مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء ، ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين
الكعبة ، وهو قول
قتادة وابن زيد .
وخامسها : أن المراد بالآية من هو مشاهد
للكعبة ، فإن له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد .
وسادسها : ما روى
عبد الله بن عامر بن ربيعة قال :
كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة في ليلة سوداء مظلمة ، فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ، ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة ، فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهذا الحديث يدل على أنهم كانوا قد نقلوا حينئذ إلى الكعبة ؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ قبلة بيت المقدس .
وسابعها : أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير عن
ابن عمر أنه قال : إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر .
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011621وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة ، فمعنى الآية : (
فأينما تولوا ) وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم : (
فثم وجه الله ) فقد صادفتم المطلوب ، إن الله واسع الفضل غني ، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك ؛ لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين : إما ترك النوافل ، وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة ، بخلاف الفرائض ، فإنها صلوات معدودة محصورة ، فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل ، فإنها غير محصورة ، فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج . فإن قيل : فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب ؟ قلنا : إن قوله : (
فأينما تولوا فثم وجه الله ) مشعر بالتخيير ، والتخيير لا يثبت إلا في صورتين :
أحدهما : في التطوع على
[ ص: 19 ] الراحلة .
وثانيهما : في السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها ؛ لأن في هذين الوجهين المصلي مخير ، فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير . وقول من يقول : إن الله تعالى خير المكلفين في استقبال أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وهم كانوا يختارون
بيت المقدس ، لا لأنه لازم ، بل لأنه أفضل وأولى - بعيد ؛ لأنه لا خلاف أن
لبيت المقدس قبل التحويل إلى
الكعبة اختصاصا في الشريعة ، ولو كان الأمر كما قالوا ؛ لم يثبت ذلك الاختصاص ، وأيضا فكان يجب أن يقال : إن
بيت المقدس صار منسوخا
بالكعبة ، فهذه الدلالة تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع ، وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا : إن القبلة لما حولت تكلم
اليهود في صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصلاة المؤمنين إلى
بيت المقدس ، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابا في ذلك الوقت ، والتوجه إلى
الكعبة صواب في هذا الوقت ، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله ، قالوا : وحمل الكلام على هذا الوجه أولى ؛ لأنه يعم كل مصل ، وإذا حمل على الأول لا يعم ؛ لأنه يصير محمولا على التطوع دون الفرض ، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر ، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه ، فهو أولى من التخصيص ، وأقصى ما في الباب أن يقال : إن على هذا التأويل لا بد أيضا من ضرب تقييد ، وهو أن يقال : (
فأينما تولوا ) من الجهات المأمور بها : (
فثم وجه الله ) إلا أن هذا الإضمار لا بد منه على كل حال ؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى : (
فأينما تولوا ) بحسب ميل أنفسكم (
فثم وجه الله ) بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه ، وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ، ونظيره : إذا أقبل أحدنا على ولده ، وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة ، فقال له : كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي ، فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير ، ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا .
القول الثاني : وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضا وجوه :
أولها : أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ، ثم إنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم ، وقدرتي تسبقهم ، وأنا عليم بهم ، لا يخفى علي مكانهم ، وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها ، وقوله تعالى : (
إن الله واسع عليم ) نظير قوله : (
إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) [ الرحمن : 33 ] فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم ، وهو نظير : (
وهو معكم أين ما كنتم ) [ الحديد : 4 ] وقوله : (
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [ المجادلة : 7 ] وقوله : (
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) [ غافر : 7 ] وقوله : (
وسع كل شيء علما ) [ طه : 98 ] أي : عم كل شيء بعلمه وتدبيره ، وإحاطته به وعلوه عليه .
وثانيها : قال
قتادة : إن النبي عليه السلام قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011622إن أخاكم nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي قد مات فصلوا عليه ، قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم " فنزل قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ) [ آل عمران : 199 ] فقالوا : إنه كان يصلي إلى غير القبلة ، فأنزل الله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ومعناها : أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما - كلها لي ، فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ويبتغي طاعتي وجدني هناك ، أي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر
nindex.php?page=showalam&ids=888للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق ، وهو نحو قوله تعالى : (
وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [ البقرة : 143 ] .
[ ص: 20 ] وثالثها : لما نزل قوله تعالى : (
ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه ؟ فنزلت هذه الآية ، وهو قول
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد والضحاك .
ورابعها : أنه خطاب للمسلمين ، أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه ، فلله المشرق والمغرب والجهات كلها ، وهو قول
علي بن عيسى .
وخامسها : من الناس من يزعم أنها نزلت في المجتهدين الوافين بشرائط الاجتهاد سواء كان في الصلاة أو في غيرها ، والمراد منه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد فهو مصيب .
المسألة الثانية : إن فسرنا الآية بأنها تدل على تجويز التوجه إلى أي جهة أريد ، فالآية منسوخة ، وإن فسرناها بأنها تدل على نسخ القبلة من
بيت المقدس إلى
الكعبة فالآية ناسخة ، وإن فسرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة .
المسألة الثالثة : اللام في قوله تعالى : (
ولله المشرق والمغرب ) لام الاختصاص ، أي : هو خالقهما ومالكهما ، وهو كقوله : (
رب المشرقين ورب المغربين ) [ الرحمن : 17 ] وقوله : (
برب المشارق والمغارب ) [ المعارج : 40 ] (
رب المشرق والمغرب ) [ المزمل : 9 ] ثم إنه سبحانه أشار بذكرهما إلى ذكر من بينهما من المخلوقات ، كما قال : (
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] .