(
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه )
قوله تعالى : (
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) .
[ ص: 50 ]
اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقا من المحن والآفات ، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكيا لا للفراق ولكن مشتكيا من وحشة الحبس ليرحم ، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم ، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدودا في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوه في المهد وشدوه بالقماط ، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم ، ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف ، ثم إن المكلف يصير كالمتحير ، يقول : من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية ! فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل ، فوجده عالما لا يشبه العالمين ، وقادرا لا يشبه القادرين ، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة ، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة ، فترك الشكاية وأقبل على الشكر ، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة ، فجعل قلبه مسكنا لسلطان عرفانه ، فكأن الحق قال : عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك ، فيقول العبد : يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته ، وكذا حب الأب والأم ، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل . أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي ، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول ، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار ، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم ، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح ، فيقول الله : عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة ، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا ، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة ، فلهذا قال : (
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ) بل كأن الكريم الرحيم يقول : عبدي أعطاني كل ما ملكه ، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي ، وأنا أولى منه بالكرم والجود ، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبا دائما مخلدا ، حتى يكون دوامه وخلوده جابرا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية .
المسألة الثانية : الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء ، فهذا يفيد معنيين :
أحدهما : أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص .
والثاني : أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية ، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلا ، على ما قال : (
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ) [ فصلت : 31 ] .
المسألة الثانية : قال : (
جزاؤهم ) فأضاف الجزاء إليهم ، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله : (
الذي أحلنا دار المقامة من فضله ) [ فاطر : 35 ] والجواب : أما أهل السنة فإنهم يقولون : إنه لو قال الملك الكريم : من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار ، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي ، فقوله : (
جزاؤهم ) يكفي في صدقه هذا المعنى وأما
المعتزلة فإنهم قالوا : في قوله تعالى : (
الذي أحلنا دار المقامة من فضله ) إن كلمة " من " لابتداء الغاية ، فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان ، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة .
فإن قيل : فإذا كان لا حق
[ ص: 51 ] لأحد عليه في مذهبكم ، فما السبب في التزام مثل هذا الإنعام ؟ قلنا : أتسأل عن إنعامه الأمسي حال عدمنا ؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف ؟ أو عن إنعامه في غد القيامة ؟ فإن سألت عن الأمسي فكأنه يقول : أنا منزه عن الانتفاع ، والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع ، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله ، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه ، كما روي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014009الخلق عيال الله " وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع . فالرحمن أولى . وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك .
المسألة الرابعة : في قوله : (
عند ربهم ) لطائف :
أحدها : قال بعض الفقهاء : لو قال : لا شيء لي على فلان ، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة ، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا ، إذا عرفت هذا فقوله : (
عند ربهم ) يفيد أنه وديعة والوديعة عين ، ولو قال : لفلان علي فهو إقرار بالدين ، والعين أشرف من الدين فقوله : (
عند ربهم ) يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد ، فإن قيل : الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون ، قلنا : المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال ، فلا جرم قلنا : الوديعة هناك خير من المضمون .
وثانيها : إذا وقعت الفتنة في البلدة ، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب ، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك ، وحينئذ تخاف الشياطين من أن يغيروا عليها ، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتابا يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله : (
جزاؤهم عند ربهم ) حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة .
وثالثها : أنه قال : (
عند ربهم ) وفيه بشارة عظيمة ، كأنه تعالى يقول : أنا الذي ربيتك أولا حين كنت معدوما صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة ، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء ، فحين كنت مطلقا أعطيتك هذه الأشياء ، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئا وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها ، كلا إن هذا مما لا يكون .
المسألة الخامسة : قوله : (
جزاؤهم عند ربهم جنات ) فيه قولان :
أحدهما : أنه قابل الجمع بالجمع ، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، كما لو قال لامرأتيه أو عبديه : إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما دارا على حدة ، وعن
أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين ، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين .
ودليل القول الأول : (
جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ) [ نوح : 7 ] فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة ، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روي مرفوعا ، ويدل عليه قوله تعالى : (
وملكا كبيرا )
[ ص: 52 ] [ الإنسان : 20 ] ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات ، كما روي عن
أبي يوسف وعليه يدل القرآن ، لأنه قال : (
ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [الرحمن : 46 ] ثم قال : (
ومن دونهما جنتان ) [ الرحمن : 62 ] فذكر أربعا للواحد ، والسبب فيه أنه
بكى من خوف الله ، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان : اثنان دون الاثنين ، فاستحق جنتين دون الجنتين ، فحصلت له أربع جنات ، لسكبه البكاء من أربعة أجفان ، ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله : (
ولمن خاف مقام ربه جنتان ) وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله : (
ذلك لمن خشي ربه ) وفيه إشارة إلى أنه لا بد من دوام الخوف ، أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال ، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلال ، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة .
المسألة السادسة : قوله : (
عدن ) يفيد الإقامة (
لا يخرجون منها ) [ الجاثية : 35] ، (
وما هم منها بمخرجين ) [ الحجر : 48 ] ، (
لا يبغون عنها حولا ) [ الكهف : 108] يقال : عدن بالمكان أقام ،
وروي أن جنات عدن وسط الجنة ، وقيل : عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة ، قال بعضهم :
إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين ، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال : إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع . مثل حركة الجن ، مع أنها دار إقامة وعدن ، وإما من الجنون فهو أن الجنة بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون ، لولا أن الله بفضله يثبته ، وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار ، أو من الجنين ، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم ، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر (
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ) . [ الإنسان : 13]
المسألة السابعة : قوله : (
تجري ) إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد ، ومن ذلك
النظر إلى الماء الجاري يزيد نورا في البصر بل كأنه تعالى قال : طاعتك كانت جارية ما دمت حيا على ما قال : (
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99] فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد ، ثم قال : من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص ، وذلك لأن التنغيص في البستان ، إما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم ، وإما بسبب الغرق والكثرة ، فذكر من تحتها ، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن ، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر ، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء ، فلا تسمى الساقية نهرا ، بل العظيم هو الذي يسمى نهرا بدليل قوله : (
وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ) [ إبراهيم : 32] فعطف ذلك على البحر .
المسألة الثامنة : اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولا والرضا ثانيا ، وروي أنه - عليه السلام -قال :
إن الخلود في الجنة خير من الجنة ، ورضا الله خير من الجنة . 50 أما الصفة الأولى : وهي الخلود ، فاعلم أن
الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ، ومرة بجنات النعيم ، ومرة بدار السلام ، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة : اعتقاد وقول وعمل .
وأما الصفة الثانية : وهي الرضا ، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح ، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة ، وجنة الروح هي رضا الرب ، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح ، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله ، ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله : (
ورضوا عنه )
[ ص: 53 ] لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث ، والمحدث لا يؤثر في الأزلي .
المسألة التاسعة : إنما قال : (
رضي الله عنهم ) ولم يقل : رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء ؛ لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله ، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام ، فلو قال : رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل ، أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة ، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة ، فقوله : (
رضي الله عنهم ) يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة .
المسألة العاشرة : اختلفوا في قوله : (
رضي الله عنهم ) فقال بعضهم : معناه رضي أعمالهم ، وقال بعضهم : المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم ، قال : لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله ، وهذا هو الأقرب ، وأما قوله : (
ورضوا عنه ) فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب .
أما قوله تعالى : (
ذلك لمن خشي ربه ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى :
الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى : (
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) [ المؤمنون : 60 ] ولعل الخشية أشد من الخوف : لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقرونا بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال : (
هم من خشية ربهم مشفقون ) [ المعارج : 27 ] والكلام في الخوف والخشية مشهور .
المسألة الثانية : هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلا على
فضل العلم والعلماء ، وذلك لأنه تعالى قال : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية ، وهذه الآية وهي قوله : (
ذلك لمن خشي ربه ) تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة ، فيتولد من مجموع الآيتين أن
الجنة حق العلماء .
المسألة الثالثة : قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن
المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمنا بأن يعلم أنه من أهل الجنة ، وجعل هذه الآية دالة عليه . وهذا المذهب غير قوي ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة ، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
أعرفكم بالله أخوفكم من الله ، وأنا أخوفكم منه والله سبحانه وتعالى أعلم . وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .