[ ص: 67 ] (
سورة القارعة )
إحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ) اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله : (
إن ربهم بهم يومئذ لخبير ) فكأنه قيل : وما ذلك اليوم ؟ فقيل : هي القارعة .
بسم الله الرحمن الرحيم
(
القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ) اعلم أن فيه مسائل :
المسألة الأولى : القرع الضرب بشدة واعتماد ، ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة ، قال الله تعالى : (
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) [ الرعد : 31 ] ومنه قولهم : العبد يقرع بالعصا ، ومنه المقرعة وقوارع القرآن وقرع الباب ، وتقارعوا : تضاربوا بالسيوف ، واتفقوا على أن
القارعة اسم من أسماء القيامة ، واختلفوا في لمية هذه التسمية على وجوه :
أحدها : أن سبب ذلك هو الصيحة التي تموت منها الخلائق : لأن في الصيحة الأولى تذهب العقول ، قال تعالى : (
فصعق من في السماوات ومن في الأرض ) [ الزمر : 68 ] وفي الثانية تموت الخلائق سوى
إسرافيل ، ثم يميته الله ثم يحييه ، فينفخ الثالثة فيقومون . وروي أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة ، فيحيي الله كل جسد بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة ، والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى : (
ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) [ يس : 49 ] ، (
فإنما هي زجرة واحدة ) [ النازعات : 13 ]
وثانيها : أن الأجرام العلوية والسفلية يصطكان اصطكاكا شديدا عند تخريب العالم ، فبسبب تلك القرعة سمي يوم القيامة بالقارعة .
وثالثها : أن القارعة هي التي تقرع الناس بالأهوال والإفزاع ، وذلك في السماوات بالانشقاق والانفطار ، وفي الشمس والقمر بالتكور ، وفي الكواكب بالانتثار ، وفي الجبال بالدك والنسف ، وفي الأرض بالطي والتبديل ، وهو قول الكلبي .
ورابعها : أنها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزي والنكال ، وهو قول
مقاتل ، قال بعض المحققين وهذا أولى من قول
[ ص: 68 ] الكلبي لقوله تعالى : (
وهم من فزع يومئذ آمنون ) . [ النمل : 89 ]
المسألة الثانية : في
إعراب قوله : ( القارعة ما القارعة ) وجوه :
أحدها : أنه تحذير وقد جاء التحذير بالرفع والنصب تقول : الأسد الأسد ، فيجوز الرفع والنصب .
وثانيها : فيه إضمار أي ستأتيكم القارعة على ما أخبرت عنه في قوله : (
إذا بعثر ما في القبور ) . [ العاديات : 9 ]
وثالثها : رفع بالابتداء وخبره : (
ما القارعة ) وعلى قول
قطرب الخبر : (
وما أدراك ما القارعة ) فإن قيل : إذا أخبرت عن شيء بشيء فلا بد وأن تستفيد منه علما زائدا ، وقوله : (
وما أدراك ) يفيد كونه جاهلا به فكيف يعقل أن يكون هذا خبرا ؟ قلنا : قد حصل لنا بهذا الخبر علم زائد : لأنا كنا نظن أنها قارعة كسائر القوارع ، فبهذا التجهيل علمنا أنها قارعة فاقت القوارع في الهول والشدة .
المسألة الثالثة : قوله : (
وما أدراك ما القارعة ) فيه وجوه :
أحدها : معناه لا علم لك بكنهها ، لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد ولا فهمه ، وكيفما قدرته فهو أعظم من تقديرك كأنه تعالى قال : قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع ،
ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار ، ولذلك قال في آخر السورة : (
نار حامية ) تنبيها على أن نار الدنيا في جنب تلك ليست بحامية ، وصار آخر السورة مطابقا لأولها من هذا الوجه . فإن قيل : ههنا قال : (
وما أدراك ما القارعة ) وقال في آخر السورة : (
فأمه هاوية وما أدراك ما هيه ) ولم يقل : وما أدراك ما هاوية فما الفرق ؟ قلنا : الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس ، أما كونها هاوية فليس كذلك ، فظهر الفرق بين الموضعين .
وثانيها : أن ذلك التفصيل لا سبيل لأحد إلى العلم به إلا بإخبار الله وبيانه : لأنه بحث عن وقوع الوقعات لا عن وجوب الواجبات ، فلا يكون إلى معرفته دليل إلا بالسمع .
المسألة الرابعة : نظير هذه الآية قوله : (
الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة ) [ الحاقة : 1- 3 ] ثم قال المحققون : قوله : (
القارعة ما القارعة ) أشد من قوله : (
الحاقة ما الحاقة ) لأن النازل آخرا لا بد وأن يكون أبلغ : لأن المقصود منه زيادة التنبيه ، وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى ، وأما بالنظر إلى المعنى ، فالحاقة أشد لكونه راجعا إلى معنى العدل ، والقارعة أشد لما أنها تهجم على القلوب بالأمر الهائل .