المسألة الرابعة :
العلم من أشد البواعث على العمل ، فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعدا وعظة ، وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة ، كما ذكر أن
ذا القرنين لما دخل الظلمات ( وجد خرزا ) ، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر ، ثم الآخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا ، والذين لم يأخذوا كانوا أيضا في الغم ، فهكذا يكون
أحوال أهل القيامة .
المسألة الخامسة : في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر ، وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلا له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملا ثم الويل له .
المسألة السادسة : في تكرار الرؤية وجوه :
أحدها : أنه لتأكيد الوعيد أيضا لعل القوم كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ، ونون التأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية ، يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم .
وثانيها : أن أولهما الرؤية من البعيد : (
إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا ) [ الفرقان : 12 ] وقوله : (
وبرزت الجحيم لمن يرى ) [ النازعات : 36 ] والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار .
وثالثها : أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها ، وقيل : هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال : (
ثم لتسألن ) والسؤال يكون قبل الدخول .
ورابعها : الرؤية الأولى الوعد والثانية المشاهدة .
وخامسها : أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم على جهة الوعيد : لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله : (
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) - إلى قوله -
ارجع البصر كرتين ) [ الملك : 3 ، 4 ] بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطورا ولم يرد مرتين فقط ، فكذا ههنا ، إن قيل : ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين ؟ قلنا : لأنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير ، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية ، ولا شك
[ ص: 77 ] أن هذه الرؤية أجلى ، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة .
المسألة السابعة : قراءة العامة لترون بفتح التاء ، وقرئ بضمها من رأيته الشيء ، والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها ، وهذه القراءة تروى عن
ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها ، ولذلك قرأ الثانية : ( ثم لترونها ) بالفتح ، وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها ، وفي قراءة العامة ؛ الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها ، واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين :
الأول : قال الفراء : قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ ، فلا ينبغي أن الجحيم لفظه .
الثاني : قال أبو علي : المعنى في : (
لترون الجحيم ) لترون عذاب الجحيم ، ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضا بدلالة قوله : (
وإن منكم إلا واردها ) [ مريم : 71 ] وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها ، يدل على هذا قوله : (
إذ يرون العذاب ) [ البقرة : 165 ] وقوله : (
وإذا رأى الذين ظلموا العذاب ) [ النحل : 85 ] وهذا يدل على أن لترون أرجح من لترون .