(
إن الإنسان لفي خسر )
قوله تعالى : (
إن الإنسان لفي خسر ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الألف واللام في الإنسان ، يحتمل أن تكون للجنس ، وأن تكون للمعهود السابق ، فلهذا ذكر المفسرون فيه قولين :
الأول : أن المراد منه الجنس وهو كقولهم : كثر الدرهم في أيدي الناس ، ويدل على هذا القول استثناء الذين آمنوا من الإنسان .
والقول الثاني : المراد منه شخص معين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد جماعة من المشركين
كالوليد بن المغيرة ،
والعاص بن وائل ،
والأسود بن عبد المطلب . وقال
مقاتل : نزلت في
أبي لهب ، وفي خبر مرفوع إنه
أبو جهل ، وروي أن هؤلاء كانوا يقولون : إن
محمدا لفي خسر ، فأقسم تعالى أن الأمر بالضد مما يتوهمون .
المسألة الثانية : الخسر الخسران ، كما قيل : الكفر في الكفران ، ومعناه النقصان وذهاب رأس المال ، ثم
[ ص: 83 ] فيه تفسيران ، وذلك لأنا إذا حملنا الإنسان على الجنس كان معنى الخسر هلاك نفسه وعمره ، إلا
المؤمن العامل فإنه ما هلك عمره وماله : لأنه اكتسب بهما سعادة أبدية ، وإن حملنا لفظ الإنسان على الكافر كان المراد كونه في الضلالة والكفر إلا من آمن من هؤلاء ، فحينئذ يتخلص من ذلك الخسار إلى الربح .
المسألة الثالثة : إنما قال : (
لفي خسر ) ولم يقل : لفي الخسر ، لأن التنكير يفيد التهويل تارة والتحقير أخرى ، فإن حملنا على الأول كان المعنى إن الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله ، وتقريره أن
الذنب يعظم بعظم من في حقه الذنب ، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة ، وكلا الوجهين حاصلان في ذنب العبد في حق ربه ، فلا جرم كان ذلك الذنب في غاية العظم ، وإن حملناه على الثاني كان المعنى أن خسران الإنسان دون خسران الشيطان ، وفيه بشارة أن في خلقي من هو أعصى منك ، والتأويل الصحيح هو الأول .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : قوله : (
لفي خسر ) يفيد التوحيد ، مع أنه في أنواع من الخسر .
والجواب : أن
الخسر الحقيقي هو حرمانه عن خدمة ربه ، وأما البواقي وهو الحرمان عن الجنة ، والوقوع في النار ، فبالنسبة إلى الأول كالعدم ، وهذا كما أن الإنسان في وجوده فوائد ، ثم قال : (
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] أي لما كان هذا المقصود أجل المقاصد كان سائر المقاصد بالنسبة إليه كالعدم .
واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر :
أحدها : قوله : (
لفي خسر ) يفيد أنه كالمغمور في الخسران ، وأنه أحاط به من كل جانب .
وثانيها : كلمة " إن " فإنها للتأكيد .
وثالثها : حرف اللام في لفي خسر .
وههنا احتمالان :
الأول : في قوله تعالى : (
لفي خسر ) أي في طريق الخسر ، وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى : (
إنما يأكلون في بطونهم نارا ) [ النساء : 10 ] لما كانت عاقبته النار .
الاحتمال الثاني : أن الإنسان لا ينفك عن خسر ، لأن الخسر هو تضييع رأس المال ، ورأس ماله هو عمره ، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره ، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان : فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران ، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضا حاصل ، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر ، مع أنه كان متمكنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما ، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها ، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك ، لأن
مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية ، فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية ، وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر ، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل ، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران ، فثبت أن
الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران .
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة ، وتقريره أن
سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا ، ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية ، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرة ، وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب ، فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها ، فكانوا في الخسران والبوار ، فإن قيل : إنه تعالى قال في سورة
[ ص: 84 ] التين : (
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ) [ التين : 4 ، 5 ] فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال ، والانتهاء إلى النقصان ، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال ، فكيف وجه الجمع ؟
قلنا : المذكور في سورة التين أحوال البدن ، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين .