الفائدة الثالثة : أن
الهدية وإن كانت قليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة ، ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراما عظيما ، لا لأن لذة الهدية في نفسها ، بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة ، فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة ، لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالا .
الفائدة الرابعة : أنه لما قال : ( أعطيناك ) قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها ، وذلك لأن من مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه ، فإن أخذ عوضا وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع ؛ لأن من وهب شيئا يساوي ألف دينار إنسانا ، ثم طلب منه مشطا يساوي فلسا فأعطاه ، سقط حق الرجوع فههنا لما قال : (
إنا أعطيناك الكوثر ) طلب منه الصلاة والنحر ، وفائدته إسقاط حق الرجوع .
الفائدة الخامسة : أنه بنى الفعل على المبتدأ ، وذلك يفيد التأكيد ، والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقا إلى معرفة أنه بماذا يخبر عنه ، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه ، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة ومن ههنا تعرف الفخامة في قوله : (
فإنها لا تعمى الأبصار ) [ الحج : 46 ] فإنه أكثر فخامة مما لو قال : فإن الأبصار لا تعمى ، ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له : أنا أعطيك ، أنا أكفيك ، أنا أقوم بأمرك ، وذلك إذا كان الموعود به أمرا عظيما قلما تقع المسامحة به فعظمه يورث الشك في الوفاء به ، فإذا أسند إلى المتكفل العظيم ، فحينئذ يزول ذلك الشك ، وهذه الآية من هذا الباب لأن الكوثر شيء عظيم ، قلما تقع المسامحة به ، فلما
[ ص: 115 ] قدم المبتدأ ، وهو قوله : ( إنا ) صار ذلك الإسناد مزيلا لذلك الشك ودافعا لتلك الشبهة .
الفائدة السادسة : أنه تعالى صدر الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم ، وكلام الصادق مصون عن الخلف ، فكيف إذا بالغ في التأكيد ؟
الفائدة السابعة : قال : ( أعطيناك ) ولم يقل : سنعطيك لأن قوله : ( أعطيناك ) يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلا في الماضي ، وهذا فيه أنواع من الفوائد :
إحداها : أن من كان في الزمان الماضي أبدا عزيزا مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك ، ولهذا قال عليه السلام :
كنت نبيا وآدم بين الماء والطين .
وثانيها : أنها إشارة إلى أن
حكم الله بالإسعاد والإشقاء والإغناء والإفقار ، ليس أمرا يحدث الآن ، بل كان حاصلا في الأزل .
وثالثها : كأنه يقول : إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية ؟ .
ورابعها : كأنه تعالى يقول : نحن ما اخترناك وما فضلناك ، لأجل طاعتك ، وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة ، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب ، وهو إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام :
قبل من قبل لا لعلة ، ورد من رد لا لعلة .